
ما إن لاحت في أفق السودان بوادر أكثر جدّية لإمكانية التفاوض بين طرفي النزاع الرئيسيين في الحرب الدائرة هناك منذ 15 نسيان (أبريل) 2021، الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، حتى نهضت جماعة الإخوان المسلمين ممثلة في ذراعيها الدينية (الحركة الإسلامية السودانية) والسياسية (حزب المؤتمر الوطني) من أجل إجهاض أيّ خطوة تعيد الأمل إلى الشعب السوداني في السلام والاستقرار.
مباشرة عقب زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي (آبي أحمد علي) مدينة بورتسودان العاصمة المؤقتة للبلاد، انطلقت الغرف الإعلامية للجماعة للتقليل من شأن اللقاء بين آبي أحمد وقائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان، فصنعت قصصاً خيالية تتناول ما دار بينهما، رغم أنّ الجانبين ضربا على اللقاء طوقاً من السِرِّية والتكتُم، ولم يفصحا عنه حتى اللحظة، ولم يعقدا مؤتمراً صحفيّاً لتنوير الرأي العام بما جرى، لكنّ إعلام الجماعة تحدث عن موضوع النزاع حول منطقة الفشقة الحدودية، وعن طلب رئيس الوزراء الإثيوبي من قائد الجيش السوداني مساعدته للقضاء على ميليشيا (فانو) الإثيوبية المعارضة التي تنشط عسكرياً في إقليم أمهرة الإثيوبي، وما إلى ذلك من سرديات قوبلت بسخرية من الشعب السوداني والمهتمين بالشأن السوداني.
صوت الحكمة
لاحقاً، عقب مغادرة آبي أحمد بورتسودان بدأت تتكشف أجندة اللقاء شيئاً فشيئاً، وقالت مصادر إثيوبية إنّ رئيس الوزراء بحث مع قائد الجيش السوداني سبل التوسط في النزاع القائم بين الجيش وقوات الدعم السريع الذي أدّى إلى مقتل الآلاف ونزوح الملايين، وأنّه يعتزم تقديم حلول واقعية بعد أن باءت جميع محاولات الوساطة بالفشل.
بعد أيام قليلة نشرت وكالة الأنباء الإماراتية (وام) خبراً يفيد بتلقي الرئيس الإماراتي الشيخ محمد بن زايد اتصالاً هاتفياً من قائد الجيش السوداني، بحثا خلاله العلاقات الثنائية بين البلدين، وقد أكد الرئيس الإماراتي حرصه على دعم الحلول والمبادرات الرامية إلى وقف التصعيد وإنهاء الأزمة السودانية مشدداً على تغليب صوت الحكمة والحوار السلمي وإعلاء مصالح السودان العليا.
رفض السلام
فسّرت المكالمة الهاتفية المذكورة سبب زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي، وأكدت صحة رواية المصادر الإثيوبية؛ الأمر الذي أصاب جماعة الإخوان السودانية التي تسيطر على وكالة السودان للأنباء، وتتولى كوادرها الإعلامية إدارة حسابات مجلس السيادة السوداني على مواقع التواصل الاجتماعي، بما يشبه الجنون، ونشرت بيانات متتالية قلبت فيها الحقائق رأساً على عقب، وشنت فرقها الإعلامية الناشطة عبر وسائل التواصل الاجتماعي حملات شعواء على قائد الجيش، وطالبت بإقالته والانقلاب عليه. وتتهم الجماعة دولة الإمارات بتقديم الدعم إلى قوات الدعم السريع، وتحشد كوادرها السياسية والإعلامية والدبلوماسية، بمن فيهم ممثل قيادة الجيش السوداني في الأمم المتحدة، للترويج لهذه السرديّة.
لكنّ ذلك لم يُجدِ نفعاً، خصوصاً أنّ الرأي العام السوداني أصبح أكثر إلحاحاً على ضرورة وقف الحرب فوراً، حيث يقع الضرر المباشر على المواطنين العزّل الذين نزحوا من مدنهم وقراهم وفقدوا ممتلكاتهم ووظائفهم وتفرقت العائلات أيدي سبأ، ممّا اضطر الجماعة إلى تخفيف خطابها الداعم لاستمرار الحرب إلى وقفها لكن بشروطها هي، فقد جاء في بيان نشره حزب المؤتمر الوطني (إخوان) في صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك)، تعليقاً على المكالمة الهاتفية بين الشيخ محمد بن زايد وقائد الجيش السوداني، وعلى زيارة آبي أحمد بوتسودان، أنّ الحزب يجدد موقفه الثابت بدعم الجيش وقوات الأمن وقوات الحركات المسلحة الموالية للجيش، والمستنفرين (ميليشيات إخوانية)، والمجاهدين (ميليشيات إخوانية)، ويؤكد دعمه لمقررات منبر جدة التفاوضي، بخروج المتمردين من منازل المواطنين والأعيان المدنية، ويدين كل الدول والمنظمات التي تدعم التمرد وتقف معه في حربه ضد الشعب السوداني.
سرديّة كاذبة
ويشير خبراء بالشأن السوداني ومحللون إلى أنّ جماعة الإخوان ظلت تردد إعلامياً أنّ منبر جدة التفاوضي طالب قوات الدعم السريع بالانسحاب من المنازل والأعيان المدنية، لكنّ هذا لم يثبت بعد، فلم تصرح الوساطة الأمريكية السعودية به، ولم تصدر وثيقة بخصوصه، كما أنّ قوات الدعم السريع تنفيه، وتؤكد أنّ المنبر طالب الطرفين بالخروج من المؤسسات المدنية والمنازل، ولم يخصّ طرفاً واحداً بذلك، لكنّ إعلام جماعة الإخوان اختلق هذه السرديّة لجعلها مثل (قميص عثمان) ترفعه كشرط رئيس للتفاوض كلما لاحت في الأفق تباشير السلام الذي تخشى الجماعة التي تقاتل ميليشياتها المسلحة بجانب الجيش نتائجه التي يتوقع أن تخرجها من المعادلة السياسية التي تترتب على أيّ مفاوضات محتملة، لكونها حكمت البلاد (3) عقود انتهت بإطاحتها عن السلطة عبر انتفاضة شعبية كبرى، ممّا يُعدّ استفتاء شعبياً واسعاً يعبّر عن رفض الشعب السوداني عودتها إلى الحكم مرة أخرى.
موقف الكيزان
ويفسّر مراقبون الإدانة الواردة في بيان حزب المؤتمر الوطني المخلوع لما سمّاها بالدول والمنظمات التي تدعم التمرد، أنّ المقصود منها إثيوبيا والإمارات، وهما اللتان أحدثتا اختراقاً مهمّاً وغير مسبوق عبر زيارة آبي أحمد، والمكالمة التي تلقاها الشيخ محمد بن زايد من عبد الفتاح البرهان، والتي يُعتقد على نطاق واسع أنّها تمّت بطلب من رئيس الوزراء الإثيوبي.
وتعمل الجماعة منذ إشعالها حرب الخامس عشر من نيسان (أبريل) على شيطنة هاتين الدولتين، ودول أخرى، لمواقفهما المعتدلة وغير المنحازة لأيّ طرف من أطراف الحرب، وتريدهما أن ينحازا بالكامل إلى قيادة الجيش التي تسيطر عليها، وتخشى جميع دول الجوار من عودتها إلى الحكم مُجدداً؛ الأمر الذي سيخلق واقعاً مُهدداً للأمن القومي لتلك الدول، وهذا ما يجعلها شديدة التحفظ إزاء مشاركتها في أيّ مفاوضات محتملة بين الجيش وقوات الدعم السريع من جهة، والقوى السياسية المدنية من جهة أخرى، وهذا ما يُربك حسابات الجماعة، ويجعلها داعمة لاستمرار الحرب حتى لو أدت إلى إفناء الشعب السوداني، أو تقسيم البلاد إلى دويلات يديرها أمراء حرب وإرهابيون، وهو ما يهدّد أمن المنطقة برمّتها.