
منطقة "وسط البلد" هي قلب مدينة القاهرة التاريخي والثقافي، وتعود أصولها إلى عصر مصر القديمة، حيث كانت تتوسط مدينة "ممفيس"، وبعدها بأعوام طويلة كانت هي مركز الحكم الإسلامي في مصر. وكان العصر الإسلامي في مصر عبر مراحله المختلفة قد بدأ في القاهرة أيضاً، مع بناء "جامع عمرو بن العاص" العام 641، ثم مع العصر الفاطمي وبناء الجامع الأزهر العام 970، وفي العصر الحديث كان فيها مقر الحكم الملكي "قصر عابدين"، الذي شهد بناء دار الأوبرا العام 1869، وظلّت منطقة وسط البلد تمثل قلب القاهرة النابض بالأحداث الثقافية والفنية؛ عبر أحداث تاريخية وسياسية أيضاً، وهذا ما يمكن أن تلحظه بسهولة بمجرد أن تطأ قدمك هذه الساحة العامرة بآثار عصور امتدت لقرون، وما زالت تحمل ما يبهر ويستفز حواس القاطن والغريب، كروائح المطاعم حتى بما تحمله من فوضى ألوان الأطعمة المختلفة، الرخيص منها والثمين، وعبق المقاهي وما تحمله من ملامح شعبية تختلط بروح شبابية تحت عوامل التحديث ومسايرة عصر التواصل الاجتماعي بصوره التي تجمع بين العالمين الواقعي والافتراضي.
ووسط أصوات الزحام، ربما تسمع أصوات حفلة موسيقية، ولن تسهو عيناك عن المتاحف والمكتبات والمسارح، التي ظلّت شامخة رغم مرور العقود والتغيرات الاقتصادية، وكذلك التكدس السكاني. إنّها مزيج العصور بفنونها وتناقضاتها الملهمة، لتلك الأسباب كان اختيار وسط القاهرة لإطلاق مهرجان وسط البلد للفنون المعاصرة (دي ـ كاف) منذ (11) عاماً.
ويمكن تصنيفه واحداً من أكبر مهرجانات المنطقة العربية الدولية المعاصرة. ونحن اليوم على بعد أيام من انطلاق دورته الـ (11)؛ في الفترة من 12 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري، إلى 5 تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، وتعرض هذه الدورة للجمهور (30) عرضاً متنوعاً، يقدمها (80) فناناً من (18) دولة مختلفة، وتتنوع العروض بين الفنون الأدائية، وفنون الميديا الحديثة والموسيقى، والفعاليات الخاصة.
عروض تميز الدورة الـ (11)
"نحتفل هذا العام بالنسخة الـ (11) من مهرجان دي-كاف، وهي من أقوى النسخ التى مرت على المهرجان، لما تضمه من عروض مميزة ومتنوعة، تعرض للمرة الأولى في العالم العربي". هكذا قال أحمد العطار، المدير الفني للمهرجان في حديث خصّ به "حفريات"، مضيفاً أنّ "من أكثر العروض تميزاً هذا العام، سيكون عرض المهرجان الافتتاحي، تحت عنوان: "كلاش بعث رقمي"، وهو عرض مسرحي سويسري- ألماني، يستخدم تقنية الواقع المعزز، يليه العرض الفرنسي ـ المصري "الصوان"، وهو عرض مميز جداً، ويرجع ذلك إلى أنّ النص المسرحي كتب خصيصاً لمصر، ويضم عدداً من الفنانين المصريين. ثم يأتي العرض الإنجليزي "يوم شغل"، وهو عرض تفاعلي مع الجمهور، يجعل منهم مؤدّين وممثلين، وللمرة الأولى يعرض في القاهرة والإسكندرية. هذا بالإضافة إلى عرض الحكي المسرحي "أكثر ذكريات البشر سرّية"، من بوركينا فاسو، الذي يظهر لنا مدى اختلاف وتنوع الفنون الأدائية حول العالم، حيث يدمج فن الحكي بالموسيقى والمسرح، ولا ننسى سلسلة "عروض شاعرات"، وهي مجموعة من الفعاليات تعتمد على الشعر، وتعتبر من أهم البرامج ضمن دي- كاف هذا العام".
وأشار العطار أيضاً إلى أنّ عروض الميديا الحديثة، والورش المتنوعة، من ورش الواقع المعزز إلى ورش الكتابة والإخراج، تمثل إضافة مهمة في هذه النسخة من المهرجان. وهذا دون إغفال عروض الموسيقى في هذه النسخة، حيث يستضيف المهرجان الفنان التشكيلي الموسيقي حسن خان؛ لتقديم أحدث مقطوعة له "الأغنية الأبدية الهيب-هوبية لكل حاجة في العالم"، وتقدّم في المهرجان للمرة الأولى في مصر والوطن العربي.
وتختتم فعاليات دي كاف هذا العام النسخة الـ (8) من "الملتقى العربي للفنون المعاصرة"، الذي يضم (12) عرضاً من العروض المبهرة الاحترافية، تقدمها نخبة من الفنانين العرب حول العالم، ما بين الفنون الأدائية والموسيقى، بالإضافة إلى برنامج متميز من النقاشات حول المهرجانات.
كيف يقع الاختيار على العروض وأماكن تقديمها؟
تقدّم عروض الدورة القادمة في أكثر من (10) مساحات مختلفة؛ منها مسرح روابط، وبيت السناري، ومركز التحرير الثقافي، وستديو عماد الدين، ومسرح الفلكي. وهناك عدة معايير لاختيار العروض؛ أهمها مدى احترافية العرض، ومدى صلاحية تقديمه بمصر والمنطقة العربية. هكذا صرح العطار لـ "حفريات"، مضيفاً: "نضع في الاعتبار اختلاف الثقافات ما بين المنطقة العربية، وثقافات أخرى بالعالم، وهذا فضلاً عن ضرورة توفر بُعد الابتكار والجديد فيما يقدّمه العرض، سواء على مستوى النص أو الشكل الفني أو المضمون؛ إذ يجب أن يضيف العرض جديداً للمتلقي، وأن يظهر فنون الأداء بصور مختلفة، أمّا أماكن العرض، فيحددها العرض نفسه، مثال ذلك: إذا كان العرض يشارك به (15) ممثلاً، ويميل إلى الشكل الكلاسيكي للمسرح، فيناسبه مسرح تقليدي، أمّا إذا كان العرض هو مسرح غرفة، فتناسبه مساحات عرض مختلفة، مثل ساحة روابط للفنون. وهناك عروض تناسب الأماكن المفتوحة أو المساحات غير التقليدية، لما لها من طبيعة خاصة، وهذا أيضاً يعتبر ضمن معايير اختيار العروض، حيث إنّ بعض العروض لا يمكن تقديمها رغم تميزها الشديد، وذلك لعدم توفر مساحة مناسبة تناسب تقديمها.
وعلى الرغم من تميز عروض شهدتها دورات سابقة، تظل فكرة المهرجان هي إتاحة الفرصة للجمهور لمتابعة عروض تقدّم للمرة الأولى بمصر أو بالمنطقة العربية، وأحياناً بالعالم، لذا لا يتضمن المهرجان سوى العروض الجديدة التي لم تقدّم من قبل.
إنجازات على مدار أعوام
صرح العطار أنّه "خلال الأعوام الـ (11) تمكن المهرجان من تحقيق سمعة دولية كبيرة في مجالات الفنون الأدائية والفنون البديلة؛ فأصبح مسموعاً ومعروفاً في مهرجانات دولية، مثل مهرجان أفنيون الدولي وأدنبرة وغيرها، في أنحاء متفرقة حول العالم. فمنظمو هذه المهرجانات يعلمون عن فعاليات المهرجان وبرامجه المختلفة، خاصّة ـ والكلام للعطار ـ أنّنا نقوم بدعوة مبرمجين دوليين ورؤساء مهرجانات دولية من أنحاء العالم لمتابعة فعاليات المهرجان، لا سيّما في برنامج ملتقى الفنون المعاصرة الذي يقدّمه المهرجان للعام الثامن هذا العام. ولعل أهم إضافة إلى نجاحات المهرجان هي إقبال الجمهور على العروض، حيث يتنوع الجمهور بين فئات عمرية وطبقات اجتماعية مختلفة، بالإضافة إلى شركاء وداعمين ورعاة للمهرجان هم في زيادة مستمرة؛ فالمهرجان يعطي فرصة لمحبّي الفنون لمتابعة مجموعة مختارة من العروض المتميزة تقدّم لأول مرة في المنطقة العربية.