يعانى المسلمون في مراحل الانحطاط والتدهور من الإيغال في تفسير الدين تفسيراً أخروياً مبهماً، ولعل هذا ما يجعل بعض الإصلاحيين يسعون إلى تقديم تفسير اجتماعي للإسلام، يراعي أهمية البعد الدنيوي في الإسلام، وخاصة في ظروف التدهور، والانحطاط، والتخلف الحضاري؛ لأنّ هذا هو ما يحتاجه المسلمون كي ينهضوا من كبوتهم، ومن حالة التخلّف والجمود التي يعانون منها، ومن هذا المنطلق كان وعي الشيخ أمين الخولي بأهمية التفسير الاجتماعي للدين، فكان حريصاً على أن يظهر الوجه الدنيوي المشرق للإسلام فيقول: "ما تحدثت بشيء من هذا الهدي القرآني إلا وأنا أرمي منه إلى سيادة مبدأ الفهم الاجتماعي الحر للدين".
اقرأ أيضاً: لماذا دعا أنور عبدالملك إلى الاتجاه نحو الشرق؟
ينتقد الخولي دعوات الإصلاح التي تختزل المشكلات الاجتماعية في المناداة بضرورة العودة إلى الدين، دون تحديد الكيفية التي تتم بها هذه العودة فيقول: "إنّ دعوات الإصلاح الديني تبدو عندنا يسيرة الشأن، قريبة الغور، تعرض الأمور عرضاً بسيطاً سطحياً، فجملتها أننا ما تأخرنا إلا لترك الدين، وأنّه بالتمسك بالدين نتقدم ونسود كما ساد أسلافنا، إلى آخر ما تعرفون ممن يستطيع ترديده من يعرف، ومن لا يعرف، ويسهل على العامة في الطرقات، فلا أهداف محددة، ولا خطط عملية، ولا دراسة صحيحة لشؤون الاجتماع في الدين والحياة، بل تتجه العناية إلى التوافه من زي، وسمت، ومظهر، وكأن هذا كل شيء، ولعلكم تذكرون ما أحدث قطع زر الطربوش من معارك، أما علاج أمهات المشاكل في الحياة فهو عندهم بين سهل التناول".
يعانى المسلمون في مراحل الانحطاط والتدهور من الإيغال في تفسير الدين تفسيراً أخروياً مبهماً
كأن أمين الخولي بهذا الكلام يجسد أزمة دعاة الإسلام السياسي الذين يرفعون شعار "الإسلام هو الحل" دون امتلاك برامج حقيقية تكشف لنا كيف يكون الإسلام هو الحل!! ولكنهم بهذا الشعار يستطيعون امتلاك قلوب العامة، والسيطرة على الرأي العام، ومن هنا يطالب الخولي بضرورة التعمق في النظر إلى الإسلام لأنّه محاولة إصلاحية كبرى لتنظيم روابط الجماعة الإنسانية.
ويرى الخولي أنّ الإسلام يملك قدرة متجددة على استمرار حضوره في المسائل الاجتماعية، والسبب في ذلك، كما يقول، أنّ القرآن الكريم قد عودنا في تدبيره الاجتماعي ألا يمس سوى الأصول الكبرى للإصلاح الإنساني تاركاً وراء ذلك من تفصيل للتدرج الحيوي، والجهاد العقلي ينتفع في ذلك بكل ما يسعفه عليه نشاطه، ويؤهله له تقدمه، ويقدر الإسلام في ذلك اختلاف الأحوال، وتغير الزمان.
مشكلة المال في الإسلام
وحاول الخولى أن يطبق موقفه من علاقة النص بالواقع من خلال بعض المشكلات الاجتماعية مثل المال، والدلالة الاجتماعية للصيام، فيرى أنّ الإسلام جاء في مسألة المال بكليات عامة، من المهم توظيفها من أجل خدمة العلاقة بين الأفراد في هذه المسألة، فيؤكد أنّ القرآن الكريم قدّر للإنسان حب التملك "زُيّن للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده خير المآب"(آل عمران 14).
اقرأ أيضاً: كيف اختلف مشروع عبدالمتعال الصعيدي لإصلاح الأزهر عن غيره؟
فأصحاب الهدي القرآني بهذا يدركون أنّ هذا الهدي الخالد قد عرف للبشرية حبها للتملك، فأرضاها لون من الإرضاء يؤثر ثقتها بما يوجهها إليه من أجل تعلية هذه الغريزة، ولكن القرآن الكريم لم يترك رغبة الإنسان في التملك إلى ما لانهاية، ولكنه سعى إلى هزّ أركان هذه الملكية من خلال الإقرار أنّ المال مال الله تعالى، ولا بد من إخراج الزكاة للفقراء.
" وآتوهم من مال الله الذي آتاكم" (النور 33)
"لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون" (آل عمران 91)
ينتقد الخولي دعوات الإصلاح التي تختزل المشكلات الاجتماعية في المناداة بضرورة العودة إلى الدين دون تحديد الكيفية
"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون" البقرة (54)
ومن ثم فإنّ نظرة القرآن الكريم إلى هذا المال في أيدي الواجدين، وصفته التي يعطونها الفاقدين، أنّهم إنما يعطون حين يقرضونه إعطاء التارك المتجاوز، وهذا إنّما هو تأسيس وتأصيل الشعور لدى واجدي هذا المال بعدم الأثرة في هذا الثراء، والتفرد بهذا الغنى، والحق المباشر في تلك الأموال، وهي الفكرة التي يعمل الهدي القرآني لتكوينها وترسيخها في نفوس أصحاب المال، ومن ثم يرفض الخولي ربط الإسلام بأي مذهبية اجتماعية مرتبطة بظروف وملابسات خاصة بها، في حين أنّ الإسلام لديه يدعم كل إصلاح اجتماعي، دون أن يلون بمذهب معين، ولون معين.
أهمية العمل في الإسلام
ومن المسائل الأخرى التي اهتم الخولي بالتركيز عليها، ومرتبطة بمسألة المال، هي مسألة تقدير العمل، ودوره في الحياة الإنسانية، فيرى أنّ النظرة الفاحصة للقرآن الكريم تدلنا على أنّه يصرّح بأنّ الحياة منظمة بنواميس عملية مضبوطة بنظم واقعية خارجية، والنجاح فيها، والظفر بخيرها، إنما هو مرهون بعمل العامل الخارجي، ومترتب على كفاحه العملي، ومرتبط بإدراكه الصحيح لواقع الأشياء الكونية، وتقديره السليم لنظم هذا العالم، وتدبيراته.
ويؤكد الخولي أنّه لن يغني الإنسان عن ذلك شيء آخر من شؤون اعتبارية معنوية، أو نفسية روحية، إلا إذا قام على واقع، وصار أمراً مشاهداً، وحاضراً ثابتاً، فما عدا العمل من نية طيبة، وسريرة خيرة، وخلق كريم، وعقيدة صحيحة إن كان وحده فقط وبلا عمل فلا جدوى له، ولا أثر في هذه الحياة الدنيا، وإذا كان مع العمل فنعم، فإنه يسدده، ويوفق خطاه.
القرآن عوّدنا في تدبيره الاجتماعي ألا يمس سوى الأصول الكبرى للإصلاح تاركاً التفصيل للتدرج الحيوي والجهاد العقلي
ومما لا شك فيه أنّ أمين الخولي قد اهتم بقيمة العمل؛ لأنّه أساس نهوض الأمة، وقيامها من حالة الركود والتخلف التي تعيش فيها، فمن مدعاة التعجب أن تكون الأمة الإسلامية التي تحمل هذه القيم في ذيل الأمم، ولذلك يرفض الخولي بعض التفسيرات التي ترى في أنّ الأخذ بالمعتقدات التعبدية، والشعائرية وحده كافٍ لمواجهة الواقع، وتغيير أوضاع المجتمع، ولهذا ينتقد الخولى كل النزعات التواكلية، التي تؤدي إلى الركون، والكسل، والخمول، ويؤكد أنّ القرآن الكريم أفهم الحياة لأهله وأخذهم فيها بهذا الناموس العملي، ولكن قد أخطأ المتدينون من الناس إذ ظنوا أنّهم إذا ما ردّدوا عقائد ودين، وأخذوا أنفسهم برسوم عبارته، وانتسبوا إلى أهله زياً وسمة، كانوا أحباء الله، وخلصاءه يحميهم من كل مغير، ويسخر قدرته لصد كل عاد عليهم، وطامع فيهم، فإنّ الحياة في نظر القرآن ليس ما سمعتم، وإنما دستوره "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون" (التوبة 105). "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى" (النجم 39).
فالعمل عند الخولى هو الذي يرفع الناس درجات بعضهم فوق بعض، وهنا تكمن أهمية العمل، وقيمته في حياة الشعوب الإسلامية، والتي تحمل هذه القيم، ولا تعمل بها، ولهذا فهي في أدنى درجات الأمم الآن، كما تتكالب عليها الشعوب المستعمرة للسيطرة على مقدرتها، وثرواتها.
من المسائل التي ركز الخولي عليها ومرتبطة بمسألة المال تقدير العمل ودوره في الحياة الإنسانية
ومن منطلق التفسير الاجتماعي للإسلام فقد حاول الخولي أن يكشف عن البعد الاجتماعي للصيام، فيرى أنّ الهدف الاجتماعي للصوم هو ربط هذه العبادة بحياة الأمة، حتى تصير عاملاً فعالاً في إنعاش الحياة، وتلافي ظواهر النقص في نواحيها المختلفة من صحية، وعملية، على نحو ما تفعل الأمم الشاعرة بحق أفرادها في الحياة الكريمة، "ولهذا أشعر أنّ الهدف الاجتماعي لحل التدبير التعبدي في رمضان: أنّه موسم خير يقام سنوياً لعلاج مشكلة الفوارق، وتذليل مصاعبها".
وقد رفض الخولي توجه الصوفية نحو تشجيع مسألة الجوع، وتلمس الآثار لفضله، "لأنّ فلسفتهم حول الجوع ليس مما يرحب به هدي القرآن كثيراً، وأنّ الروح الحيوية التي امتاز بها الإسلام، وقررها في كتابه الكريم، لا تهتم كثيراً لما أطال به الصوفية من اعتبار الجوع سيد الأعمال، وأنه فضل العبادة، أو مخ العبادة، وأنّ ترحيبهم بما ينتهي إليه الجوع من الضعف حتى عن أداء العبادة المفروضة كالصلاة ليس مما يتفق كثيراً مع هذه الروح الجادة النشطة التي يحرص عليها الإسلام، وإنما هي روح دخيلة على الإسلام".