تعتبر الأكاديمية الفرنسية ميريام بن رعد من أفضل المتخصصين الفرنسيين في شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وسبق لها أن أصدرت أعمالاً مهمة بشكل خاص عن نزاعات وصراعات العراق، الذي تعود أصولها العائلية إليه. كما أن لها أيضاً كلمة مسموعة في الأوساط البحثية والأكاديمية الأوروبية حين يتعلق الأمر بتحديات العنف والتطرف الإسلاموي، وضمن هذا الاهتمام تحديداً جاء كتابها الأخير الصادر خلال شهر يناير الجاري تحت عنوان: «الجهاد: من الجذور الدينية إلى الأيديولوجيا»، ليقدم قراءة مفصلة في خلفيات وانحرافات الفهم المغلوط للدين لتبرير وتمرير مختلف صور العنف والإرهاب. وفي هذا السياق تقول الكاتبة، ابتداءً، إن مفهوم «الجهاد» أقحم في التداول العام على نطاق دولي، بشكل غير مسبوق، منذ وقوع هجمات 11 سبتمبر 2011، وقد وقع ذلك بسوء فهم أدى في كثير من الأحيان إلى سوء تفاهم والتباس. وقد صار هذا المفهوم مرتبطاً في المتخيل الغربي العام بأولئك المتطرفين الإسلامويين شديدي العنف والتطرف، مما أدى لترسيخ حزمة صور نمطية معششة وأحكام مسبقة مبيتة ضد الإسلام، دون وعي أو تدقيق في خلفيات المفهوم نفسه، وبراءة الدين الحنيف من أي سلوك متطرف أو عنيف. هذا فضلاً عن عدم تمثيل أولئك المتطرفين أيضاً للإسلام، وكونهم يشكلون نسبة شديدة الضآلة في المجتمعات المسلمة، وهذا ما لا ينتبه له كثيرون في الغرب، حين يرون أو يتوهمون أن المتطرفين يمثلون الإسلام، في حين أن الإسلام منهم ومن ممارساتهم براء. وبطبيعة الحال فمثل هذه الصور النمطية المغالطة هي ما يسعى المتطرفون أنفسهم لترويجه وتمريره، بصفة مباشرة أو بالإبهام والإيهام، مع سبق الإصرار والترصد.
ومن هنا تستعرض المؤلفة في كتابها الواقع في 210 صفحات جوانب من هذا الفهم المغلوط للدين، ومحاولات المتطرفين وأصحاب الصور النمطية في الغرب، على حد سواء، إلصاق صفة العنف بالإسلام، وهو ما يكون في كثير من الأحيان سبباً في جدالات وخلافات صاخبة بين من يستبطنون روح الإسلاموفوبيا ومن يدافعون عن الإسلام الساعين لإظهار حقيقته الناصعة البعيدة تماماً عن كل تطرف أو إرهاب. وحفراً في المفهوم نفسه، ونزعاً لأي التباس أو تلبيس تجيب المؤلفة في كتابها عن حزمة أسئلة استظهار كثيرة، من قبيل: ما معنى مفهوم الجهاد، بحسب التمثلات والتأويلات للنص الديني نفسه عبر العصور؟ وما حدود الفصل والوصل بين الجهاد في مفهومه الديني ومن يسمون «الجهاديين» في لغة التداول الإعلامي الراهن؟ ومن هم هؤلاء «الجهاديون» وما خلفياتهم ودعواتهم ودعاواهم الأيديولوجية؟ وما القضايا التي يدعون الدفاع عنها، بأية صفة؟ وما هي أهم تياراتهم وتنظيماتهم؟ وما نقاط الاتفاق ونقاط الاختلاف بين تلك التيارات والتنظيمات؟ ومن خلال طرح مثل هذه الأسئلة، واقتراح إجابات عليها، تقدم المؤلفة صورة أكثر شمولية وتحديداً في الوقت نفسه لما يسمى الظاهرة «الجهادية»، بكيفية تساعد على تفكيك كثير من غموضها وتعقيدها، وكشف كثير أيضاً من ملابساتها والتباساتها العصية.
وبحكم تخصص المؤلفة من واقع دراساتها ومؤلفاتها السابقة في تنظيم «داعش» تحديداً، تستعرض حيثيات ظهوره الأولى منذ سنة 2006 في خضم الصراع العراقي الذي لامس حدود الحرب الأهلية والمذهبية، مبرزة في هذا الخصوص بعض الموجّهات السياسية والنظرية في التعامل مع التحدي الذي مثله ذلك التنظيم الإرهابي بالنسبة للمنطقة الشرق أوسطية من جهة، والغرب بل والعالم كله من جهة أخرى. ومع الهزيمة العسكرية الساحقة الماحقة التي مُني بها التنظيم في معاقله السابقة في العراق وسوريا، فإن خطره وخطر فلوله، ودعايته على الإنترنت ما زال قائماً، وهو ما يستلزم الاستمرار في المواجهة في مستواها الديني والثقافي والاقتصادي، فضلاً عن الأمني والعسكري، لسد كل الأبواب على عودة خطره، وتجفيف منابع ومنابت التطرف والعنف والإرهاب في المنطقة والعالم، من خلال مقاربة ثقافية تقدم الدين في سياقه الوسطي المعتدل الصحيح. ومقاربة اقتصادية اجتماعية أيضاً تستجيب لاحتياجات الشرائح السكانية التي كان التنظيم يستغل مشكلاتها في دعايته، بكيفية تسد عليه كل الذرائع والمنافذ لتمرير دعاواه لغير المحصنين، وتمنعه أيضاً من التغرير بضحاياه من القاصرين.
عن"الاتحاد"