العقل المتطرف... بين القراءة والتحليل والمواجهة

العقل المتطرف... بين القراءة والتحليل والمواجهة


06/06/2022

منير أديب

قراءة عقل المتطرف وفهم الثابت والمتغير داخل هذا العقل أولوية في مواجهة المتطرفين، وفي تحليل هذا العقل، فلا يمكن أن تكون هناك مواجهة ناجعة أو ناجزة من دون فهم المتطرف وإدراك ماهية تفكيره، وتحليل منطلقاته الفكرية والأيديولوجية وكذلك العقل الذي أنتج هذه الأفكار.

استراتيجيات مواجهة الإرهاب ربما تؤكد أننا لم نحلل عقل المتطرف بعد بشكل كافٍ، فلو حدث ذلك لانعكس على فرص المكافحة، سواء للتطرف أو للمتطرف نفسه؛ وأهمية مكافحة التطرف تنبع من فهم عميق للتطرف وللمتطرف، وهذا لن يتأتى مطلقاً من دون تحليل وتحرير عقل المتطرف، والذي يُعد المحرك الأساسي له.

إمتلأت عقول المتطرفين بأطنان من المقولات والفتاوى، بينما خلت هذه العقول من أي ردود قوية ومقنعه تفكك هذه المقولات أو ترد على هذه الفتاوى، وربما يكون ذلك تقصيراً من المؤسسات الدينية التي اعتبرت أن دورها ينتهي بالرد على كل من يأتيها محاولاً التماس النصيحة والقول السديد في مسألة ما.

تعقد دار الإفتاء المصرية من خلال "مركز سلام لدراسات التطرف" مؤتمراً مهماً بعنوان "التطرف الديني... المنطلقات الفكرية واستراتيجيات المواجهة" بحضور قرابة خمسين باحثاً من خمسين دولة، ولعل الهدف الرئيسي والأساسي لهذا المؤتمر هو فهم عقل المتطرف؛ قراءة هذا العقل قراءة واعية، وبالتالي مكافحة الأفكار التي شكلته.

حرصت دار الإفتاء في نسختها الجديدة في العقد الأخير على إنتاج أفكار من شأنها تفكيك الأفكار المؤسسة للتنظيمات المتطرفة، من خلال إنشائها مرصد الفتاوى الشاذة والآراء المتشددة، الذي بات منارة للرد على مقولات المتطرفين. هذا المرصد يواجه كل ما تنتجه جماعات العنف والتطرف، سواء المحلية أم الإقليمية أم حتى العابرة الحدود والقارات، وتقوم بالرد على هذا الإنتاج بلغات عديدة. صحيح الأزهر الشريف قام بتقليد هذه الفكرة، ولكنه لم ينجح في تقديم إنتاج يضاهي ما قدمته دار الإفتاء.

هذا المرصد يقوم على أكتاف علماء وأساتذة وباحثين يقودهم الدكتور إبراهيم نجم، وهو عالم فاضل وباحث مجدٍ، فلم يكتفِ الرجل الذي يعمل مستشاراً لمفتي الديار المصرية وأميناً عاماً لدور وهيئات الإفتاء في العالم، ومديراً لمرصد الفتاوى الشاذة والآراء المتشددة وصاحب المشاريع الجريئة في مواجهة جماعات العنف والتطرف، بل قام بتنظيم أول مؤتمر، ولعله الأضخم في مواجهة إشكاليات الأفكار واستراتيجيات المواجهة، فهذا المؤتمر بما ينتجه من بحوث سيكون سداً منيعاً في المواجهة وفهم عقول هؤلاء المتطرفين، وهو ما نحن في حاجة إليه.

المتطرفون ليسوا وجوهاً متشابهة ولا عقولاً واحدة، وإنما تتعدد أنماط هؤلاء المتطرفين وتختلف طرق تفكيرهم، وبالتالي من المهم البحث في المنطلقات الفكرية للتطرف مع طرح فكرة المواجهة والتفكيك، ليس هذا فحسب وإنما تشريح عقل هؤلاء المتطرفين حتى نعرف تأثير هذه المنطلقات عليه وأسباب انطلاقه منها، والبحث في مسألة ما إذا كان عقل هؤلاء المتطرفين واحداً أو أنه متعدد ومختلف.

فلا يمكن مواجهة المتطرفين إلا بالتعرف الى طريقة تفكيرهم وشكل المنطلقات الفكرية، وهذه المهمة تستلزم الاقتراب من أفكار هؤلاء المتطرفين، فلا يمكن مواجهة هؤلاء إلا من خلال الفكر، ولا يمكن للفكر أن يكون له تأثير إلا من خلال فهم العقلية التي تُحرك هؤلاء المتطرفين، وهي مسؤولة بطبيعة الحال عن التشريع وهي التي تُحرك صاحبها نحو العمل المسلح.

أغلب النصوص التي اعتمدت عليها جماعات العنف والتطرف فيها فسادٌ في الرأي والقياس والاستحسان، وصادفت هوى وابتعدت عن الحقيقة الواضحة، وفي الوقت نفسه عبرت عن قلوب أصحابها التي تكره الحياة عبر ميلها للكراهية، فكثير من هؤلاء اختصر مهمته في قتل النّاس والإجهاز عليهم بدعوى الكفر، وكأنه وكيل الله في الأرض، فأصبحت مهمته ومهمتهم انتشال الناس من الجنة إلى النّار، وهي مهمة الشياطين دائماً وأبداً.

مهما كان الإنسان أو المجتمع على معصية، على فرض ذلك، فهو في حاجة، بل يُصبح في أمس الحاجة إلى من يُساعده على أن يتخلى عن معصيته لا أن يموت عليها، فيكون جزاؤه النار، كما يتخيل هؤلاء، فمهمة هؤلاء هي أن يقتلوا الناس وهم على هذا الحال.

ولذلك نقول إن أغلب النصوص التي اعتمدوا عليها تُخالف العقل والمنطق، ومن قبل روح الدين، كما أنها تُخالف الفطرة النقية، وتُصادف في الوقت نفسه سواد القلوب التي لا تسمع ولا تعقل، هؤلاء بأسهم على قومهم شديد وعلى أنفسهم في حقيقة الأمر، هؤلاء ظلموا الإسلام بأفهامهم الخاطئة فظلموا أنفسهم والناس أجمعين.

أخطر صور المواجهة الغائبة هو تفكيك أقوال تنظيمات التطرف واستشهاداتها الباطلة، معها سوف يبطل سحر هذه التنظيمات وتأثيرها في النّاس، ما دون ذلك تظل هذه الأفكار حيّه بين أصحابها والنّاس، فكلما ذهب جيل أتت أجيال جديدة، بخلاف تفكيك الفكرة المؤسسة والتي تنهي التنظيم وتأثيره.

دائماً يميل عقل المتطرف إلى التكفير، مطوعاً النصوص الدينية من قرآن وسنة، فيقوم بتكفير الحاكم والمجتمع باعتبارهما طاغوتاً، وكأنه يشارك الله في أخص خصائصه وهي الربوبية، كما أن البعض منهم يرى أن من يحتكم لغير ما شرعه الله فهو طاغوت، وبالتالي قضية التشريع هذه مفصلية في تكفير المتطرفين للمجتمع.

يُسمي هؤلاء المتطرفون ذلك بأنه تبديل لحكم الله، ولذلك يُطالبون بالعودة إلى أحكام الله، وهنا تختلف الجماعات والتنظيمات المتطرفة في قراءة هذه الأحكام أو فهمها وتطبيقها، وكلٌ منهما يرى الصورة بعين تختلف عن عين الآخر فتتوه الحقيقة بين دواعي الكفر من رحم التشريع والحكم بما أنزل الله، فيعتبرون أن الأحكام التي يُحكم بها طاغوتية، لمجرد أنهم فرضوا أحكاماً وقوانين لتسيّر الحياة أو تنظيم العلاقة بين البشر في إطار من الحقوق والحريات، هؤلاء يعتبرون هذه الأحكام طاغوتية لأنها لم تُصادف فهمهم الضيق للدين أو لم تأت على هواهم.

هؤلاء يعلنون عبر تفسيراتهم أن السيادة المطلقة والحاكمية العليا للشريعة الإسلامية والنص، وأن كل ما يتعارض معها من القوانين أو اللوائح باطل، والحقيقة أن هؤلاء يفرضون وجهة نظرهم حول ترتيب القوانين التي تحكم النّاس، وهنا فرق بين الدستور والقانون، فقد يكون الدستور متوافقاً مع الشريعة الإسلامية لكن الأمر يستلزم وجود تشريع قانوني ينظم العلاقة بين الناس. الحديث عن ضرورة أن يكون متسقاً مع الشريعة الإسلامية هو نوع من التنطع المرفوض، لأن هذه الأحكام هي في الحقيقة لا تخالف الشريعة الإسلامية، بل تأتي متسقة مع فهم روح الإسلام.

يطالب هؤلاء بأن تكون الشريعة الإسلامية المصدر الوحيد للتشريع وليست مصدراً رئيسياً للتشريع، فهم يرون هذه العبارة شركية وهي تعني الإقرار والرضا بوجود مصادر أخرى للتشريع، وهذه قراءة ضيقة للدين، رغم أنها تمثل المنطلق الفكري لهذه التنظيمات، وهنا يضرب العقل المتطرف بالتنوعات الدينية والثقافية عرض الحائط وبالتنوع البشري الذي خلقه الله في هذه الدنيا.

يدور العقل المتطرف في فلك الدعوة الى تطبيق الشريعة من دون أي اعتبارات أخرى، بل تجده يرفع السلاح من أجل هذه الدعوة التي يريد أن يفرضها على النّاس، هذا العقل لا يملك سوى مشروع واحد وهو تطبيق الشريعة التي لا يعلم عنها شيئاً سوى القتل، رغم أنها شريعة سمحة تُحافظ على الإنسان وعلى الحياة وربما تدور أغلب أحكامها على حفظ الروح والنفس لا اغتيالهما كما يميل هذا العقل.

عندما تتأمل العقل المتطرف في المسألة الواحدة، تجده يحكم عليها بأكثر من حكم، فتارة يحكم بالقتل في مسألة والتماس العذر في المسألة نفسها، ولكل منهما أدلته الشرعية. هذه التنظيمات تُكفر بعضها بعضاً، ومن الأخطاء التي وقع فيها بعض الدعاة هي كثرة الحكم بالكفر حتى تحول هؤلاء إلى دعاة تكفير. هؤلاء هم من جروا كثيراً من التنظيمات إلى مربع التكفير ثم العنف، وباتت هذه الأفكار منطلقات فكرية لهم ولغيرهم.

هذه التنظيمات تضفي مسحة من الشرعية على دعوتها من خلال الدعوة الى تطبيق الشريعة الإسلامية. هؤلاء في الحقيقة دعاة عنف، وكثيرٌ منهم متطرفون بالمعنى الجنائي ولكنهم ألبسوا دعوتهم غطاءً شرعياً باسم الدين. كثير من هؤلاء أفرطوا أيضاً في الدعوة الى تطبيق الشريعة الإسلامية وأجبروا الناس على الالتزام بما فهموه هم من أحكامها، وهنا يتبين لنا آفة هذه التنظيمات في العقل.

هذا العقل دائم الطلب بتطبيق الشريعة الإسلامية وهو لا يلتزم القليل من القيم الإنسانية أو الإسلامية، وهنا ندرك خطورة هذا العقل وتطرفه، ليس لمطالبته بتطبيق الشريعة، ولكن لتطرفه في الطلب أولاً وعدم التزامه بالقيم الإسلامية التي يدعو إليها من خلال الدعوة للتطبيق ثانياً، فتجده مثلاً يقتل من أجل تطبيق الشريعة الإٌسلامية رغم أن الشريعة التي يقتل من أجلها سمحة ولا تدعوه الى القتل!

وخلاصة القول في ذلك أن كثيراً من المتطرفين يرفعون شعارات تطبيق الشريعة الإسلامية، وهذا لا يجعلنا ننظر بإجلال الى هؤلاء، بخاصة أنهم يُريدون إلزام الناس برؤيتهم وبتصورهم للشريعة تحت وقع السيف، فعظمة الشريعة لن تدفعنا الى وصف كل من يُطالب بتطبيقها بأنه نزيه شريف أو معتدل فقيه، فأغلب هؤلاء المتطرفين رفعوا شعارات لا يختلف عليها كثير من المسلمين بهدف التأثير في كل المسلمين.

تفكيك عقل المتطرف مهمة ثقيلة على الباحثين والمختصين، ولكن يسبقه فهم لهذا العقل وقراءة واعية لمفرداته، هذا ما تسعى إليه دار الإفتاء المصرية عبر مشاريعها الخلاقة في تفكيك مقولات المتطرفين، وهو ما يتطلب التعاون معها في هذا المشروع الكبير سواء بالبحث أم الدراسة أم النصيحة.

عن "النهار" العربي



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية