الضحية

الضحية


21/08/2019

كيف يعيش هؤلاء المتطرفون بين ظهرانينا ونحن نعشقهم؟ كيف نصفهم بالخلق والهدوء وفجأة يتحولون؟ وكيف بعدها يقتُلون ويقتَلون؟ إنّها أسئلة منطقية يجيب عنها بكل وضوح عبد الرحمن الغرابلي (٢١ عاماً)، من محافظة بورسعيد، الطالب في السنة الأخيرة بكلية الإعلام جامعة القاهرة، الذي اكتشف زملاؤه وأصدقاؤه فجأة أنّه التحق بتنظيم داعش، الذي أطلق على نفسه (ولاية سيناء).

كان عبد الرحمن الغرابلي ضحية مجموعه من القتلة والمحرضين ومعدومي الإنسانية الذين دفعوه كي يذهب إلى سيناء

قالوا عنه أشياء كثيرة، نقلوها في وسائل التواصل الاجتماعي، من أنّه محبوب للغاية، هادئ الطباع، مرح الوجه، وطيب القلب، وأنّه كان نموذجاً مختلفاً تماماً في تصوراته ودوافعه؛ فقد نشأ بعيداً عن فكرة (الفسططة)، أي فسطاط الإيمان والكفر، كما كان بعيداً عن التطرف؛ بسبب الفقر والاقتصاد والظروف الاجتماعية، فهو من أسرة ميسورة الحال، ورغم ذلك قرر الوثوب إلى مكان بعيد هناك في سيناء ليلتحق بداعش!
بالمعنى الأدق؛ كان الغرابلي طالباً مجتهداً، ليس عنيفاً ولا انطوائياً، وظروف أسرته المادية مستقرة تماماً وميسورة الحال، وهذا معناه أنّه غير محتاج لأموال، ولم يتسبّب الفقر في تحولاته الفكرية.
المحرقة
قرر الشاب، الذي يدرس الإعلام، المشاركة في ثورة يناير على نظام الرئيس الأسبق، حسني مبارك، وعام 2012 لم ينتخب مرسي في الجولة الأولى، ووفق أصدقائه؛ فإنّه قاطع جولة الإعادة! لأنّه لم يكن إخوانياً في البداية، وكان يلعن سياسة الجماعة على صفحته بالفيسبوك، ويقول إنّهم كانوا يلهثون إلى البرلمان، ويفعلون الكثير، فيكذبون ويختلقون الإشاعات، ثم يعودون بعد ذلك ليتبرؤوا من أفعالهم، طالما حققوا أهدافهم، إنّهم كسياسيّ دخل للسياسة من أوسع أبوابها وبأكبر معانيها؛ من مداهنة الحكام، ثم اللعب بها من أجل الوصول للسلطة.

اقرأ أيضاً: لماذا تستمر عمليات تنظيم داعش في سيناء؟
في النهاية؛ تحدّث رفاقه الإخوان عن الدعوة والمواجهة، ووضعوا هذه المعادلة حتى وجد نفسه بين أحضانهم، وكان كالضائع الذي يبحث عن الحلم لكنّه كلّما اقترب منه ضاع الحلم.
يقول الصحفي أحمد سلطان، الذي كان زميله في كلية الإعلام: إنّ الغرابلي كان شاعراً وأديباً، وكان يستعد لأن يكون صحفياً مميزاً، قرر أن يعمل صحفياً متدرباً، وذهب ليغطي فعاليات اعتصام ميدان رابعة، وكانت هذه هي بداية تحولاته الحقيقية، الكلمات التي كان يسمعها من فوق المنصة، والعلاقات التي بدأت تتشابك، ثم الفضّ، الذي قتل فيه أمامه بعض رفقائه، وهنا قرّر الرحيل.

اقرأ أيضاً: الفكر يتحدى الإرهاب في سيناء عبر سفارات المعرفة
فرار قيادات الإخوان، وبقاء القواعد التي لا تملك اتخاذ القرار، كان أشبه بمصيدة وآخر طوق للنجاة، فلم يملك الغرابلي المراهق، بقلبه الطفل، خطوات فضّ الاعتصام التي كانت بالقوة.
عاد إلى مدينته بورسعيد، وأخذ يراقب ما يجري؛ الإخوان وأعداؤهم من الأهالي كانوا في هذه اللحظات يتبادلون رشق بعضهم بالحجارة، وإطلاق ما يبدو أنّها شماريخ أو ألعاب نارية، والشرطة بدأت بالتحرك باتجاه الشارع، لكنّها وقفت من بعيد وسط إطلاق كثيف لقنابل الغاز، والمدرعات والمجنزرات اخترقت السواتر والحواجز التي صنعها أعضاء الجماعة.

اقرأ أيضاً: سيناء بعد "الإخوان"
شاهد الغرابلي أحد المواطنين يريد الصعود إلى مقر الإخوان، لكنّهم أطلقوا عليه الرصاص فوقع من الدور الثاني مضرجاً بدمائه، الجماهير تحمست وأشعلت النيران، فبدأ في الركض وولّد الغضب في صدره موجات متلاحقة من السكون توحّدت معه وسرقته من الزمن، فقرّر مواجهة أعداء الجماعة، وعقب أن انتهى هذا اليوم أبلغ عنه بعض جيرانه، فقرّر الهروب خوفاً من الملاحقة الأمنية.
صورة الشاب قبل التحاقه بداعش، وصورته، وهو في سيناء مختلفة تماماً، حينما تنظر إلى كلتا الصورتين، وتقرأ حكايات أصحابه عن شخصيته، لا بدّ من أن تتعجب من حجم التحول الذي حدث له.
يشارك عبد الرحمن الغرابلي عقب التحاقه بتنظيم داعش، بتفجير فندق "سويس إن"، ويقتل قضاة العريش، في تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٥، وشارك معه في هذه العملية صديقه خريج إعلام الأزهر، فهما شيء واحد، وكان حجم ونوع التحول الذي حصل لهما متشابهاً إلى حدّ كبير.

اقرأ أيضاً: رؤوس الإرهاب التي لا تقطع في سيناء
يرى القيادي السابق، ناجح إبراهيم، في تصريح لـ"حفريات"؛ إنّ اعتصام رابعة سيظلّ نقطة سوداء تتجمع بسببها جماعات التكفير، ففكرة الانتقام والثأر، وأنّ الشباب هم المحرقة، ومواجهة الحكومة لإفساح الطريق للدعوة كلّها، نبتت في هذا الاعتصام، وما أعقبه من فضّ بالقوة.
ويعتقد إبراهيم بأنه كي نفهم طبيعة النماذج الجديدة من أعضاء الأجنحة العسكرية لجماعات الإسلام السياسي، علينا أن نفهم ما جرى من تحولات بعد 25 كانون الثاني (يناير) وحتى الآن، عند قطاع كبير من الشباب، وحجم متطلباتهم، وحجم الصورة التي تصلهم عن علاقة النظام السياسي بالشعب، وشكل المواجهات التي تحدث مع تيارات الإسلام السياسي على العموم، وهذا كلّه خلق دوافع عند كثير من الشباب، جعلتهم يكفرون بالحلّ السلمى، وجعلت شباباً مثل عبد الرحمن الغرابلي، كانوا يحلمون بمصر أحلى، ووجدوا من شرح وفسّر وأوضح وقال لهم إنّ الوطن لن يعود إلا بالسلاح والقوة لتغيير الواقع المؤسف.
الذهاب للموت
أعوام طويلة فصلت ما بين الغرابلي، طالب الإعلام الذي نعته أصحابه بالتديّن والأخلاق، والمخطِّط والقاتل المحترف.
تمّ تكليفه بقيادة لجنة الإعلام للتنظيم الداعشي بسيناء، وكان الغرابلي يذهب بنفسه ليصور عمليات القتل والذبح التي يقوم بها التنظيم، لكنّه ذات مرة، وهو في طريقه لعملية إرهابية، تمّ قصف الخلية بالكامل، ومات من فوره، وفي يده كاميرته التي كان يستخدمها في التصوير.

لم يكن عبد الرحمن وحده فقط هو الصحفي الذي تحوّل من القلم إلى حمل السلاح والقتل

لم يكن عبد الرحمن وحده فقط هو الصحفي الذي تحوّل من القلم إلى حمل السلاح والقتل، فقد سبقه علي خاطر، وعلي سعد، ومصطفى البرماوي، وغيرهم، وفي الأسابيع الماضية، حين تمّ القبض على عدد من الخلايا، ومنهم خلية كبرى بالقاهرة وضواحيها، وتم التحقيق معهم، أجمعوا على أنّ تحريض قيادات الخارج، ووصف النظام المصري بالانقلابي العميل، الذي يبيع أرضه لليهود، هو السبب في كفرهم بالعمل السلمي، واتجاههم للعمل المسلح.
كان عبد الرحمن الغرابلي ضحية مجموعه من القتلة والمحرضين ومعدومي الإنسانية، الذين دفعوه كي يذهب إلى سيناء، ومثل هؤلاء الشباب الذين كانوا متفوقين علمياً، ومتدينين بطبعهم، ولا انطوائيين، وظروف أسرهم المادية مستقرة تماماً، وميسوري الحال، كانوا ضحية للمحرّضين والسلطة والأجهزة، والمؤسسات الدينية، والإعلام، وكلّ المجتمع، ولم يكن الفقر والجهل، اللذان يستخدمان لإبعادنا عن الأسباب الحقيقية، ضمن أسبابهم.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية