الصراع على امتلاك وإنتاج المعادن النادرة في العالم... هل يمكن الفكاك من الهيمنة الصينية؟

الصراع على امتلاك وإنتاج المعادن النادرة في العالم... هل يمكن الفكاك من الهيمنة الصينية؟


11/11/2021

لطالما كانت السيطرة على المعادن والثروات المهمّة، من النفط والفحم وحتى الذهب والفضة، عماد الإمبراطوريات وأساس الصراع بينها. واليوم ومع تطور المنتجات والتقنيات بات هناك معادن جديدة يدور الصراع حول امتلاكها وإنتاجها، وأهمّها ما يُعرف بـ "المعادن النادرة"، أساس الصناعات والمعدات التكنولوجية الحديثة، فما شكل وحدود الهيمنة والصراع على هذه المعادن في عالمنا اليوم؟

معادن نادرة

المعادن النادرة هي مجموعة تتألّف من (17) عنصراً موجودة في الجدول الدوري، (15) منها موجودة ضمن سلسلة "اللانثانيدات"، أمّا العنصران الآخران، فهما السكانديوم، والإتريوم، ويقعان في مكان آخر من الجدول، لكنهما يشتركان مع البقية في خصائص كيميائية مشابهة. ومن أشهر هذه العناصر: اللانثانوم، والسيريوم، والبروميثيوم، والتربيوم، والديسبروسيوم، والإيتربيوم، واللوتيتيوم، والإيتريوم.

العناصر الأرضية النادرة في الجدول الدوري

ولا تأتي ندرة هذه المعادن بسبب كونها غير متوفر في القشرة الأرضية، بل هي متوفرة، إلا أنها تكون مختلطة بعناصر أخرى، ولا تكون موجودة بتركيزات عالية وضمن ترسّبات كبيرة، كما هو الحال في معادن أخرى مثل النحاس أو الفضة أو الذهب، وغيرها من المعادن التي تتشكل ضمن ترسّبات وطبقات متراكمة، بحيث يسهل تعدينها واستخراجها بكميات وفيرة وذات جدوى.

اقرأ أيضاً: وزارة النفط المصرية تكشف موعد بدء ضخ الغاز إلى لبنان

أمّا في حالة المعادن النادرة، فهي صعبة التعدين؛ لأنها بسبب خصائصها الكيميائية تكون موجودة بتركيزات ضئيلة ومتفرّقة، ومختلطة مع عناصر أخرى، ما يُعقّد من عمليات استخراجها ومعالجتها وتكريرها، إضافة إلى ما ينجُم عن ذلك من كلفة بيئية، وبما لا يتوافق مع الشروط البيئية المعمول بها في العديد من الدول، فضلاً عن ذلك فإنه يصعب إعادة تدويرها من المنتجات التي تستخدم فيها؛ لأنها تكون موجودة بتركيزات منخفضة أيضاً ضمن هذه المنتجات، ممّا يزيد بالتالي من ندرتها.

استخدامات وأهمية متزايدة

تكتسب المعادن النادرة أهميتها المتزايدة بسبب دخولها في كثير من الصناعات المهمّة والأساسية في عالم اليوم، إذ تتمتع هذه المعادن بخصائص فريدة تجعل من غير الممكن الاستغناء عنها في تطوير الصناعات والمعدّات التكنولوجية الحديثة، من توربينات الرياح والأجهزة الطبية، والهواتف المحمولة، ومحرّكات السيارات الكهربائية.

المعادن النادرة صعبة التعدين؛ لأنّها بسبب خصائصها الكيميائية تكون موجودة بتركيزات ضئيلة ومتفرّقة، ومختلطة مع عناصر أخرى

وتدخل المعادن النادرة في صناعة الهواتف المحمولة وأجهزة التلفزيون والحواسيب، وتستخدم في صناعة مكبّرات الصوت ومحرّكات الأقراص الثابتة وشاشات العرض الضوئية. وذلك يعود لخصائصها الكيميائية الفريدة التي تجعل من الأجهزة الإلكترونية كالحواسيب والشاشات والهواتف أخفّ وأصغر حجماً وأكثر كفاءة، ويبرز تحديداً معدن النيوديميوم، الذي يتمتع بخصائص مغناطيسية تسمح له بإنتاج مجالات مغناطيسية قوية للغاية، يعتمد عليها عمل الأجهزة الذكية.

تعتبر المعادن النادرة مكوّنات أساسية لمحرّكات السيارات الكهربائية

وفي المجال الطبي، تُستخدم المعادن النادرة في صناعة الأدوات الجراحية الدقيقة، وفي أجهزة ضبط نبضات القلب، والأدوية الخاصة بالتهاب المفاصل، وتستخدم المختبرات معدن السيزيوم في الأشعة السينية المستخدمة لعلاج السرطان.

اقرأ أيضاً: تحذيرات جديدة من تسرب النفط في سفينة "صافر" بالبحر الأحمر.. وهذه الدول مهدّدة

وفي مجال الطاقة، يبرز الطلب كذلك على معدن السيزيوم الذي يُستخدم تحديداً في صناعة استخراج النفط والغاز، حيث يتم استخدام محلول ملحيّ من السيزيوم في سوائل الحفر لمنع الانفجارات في الآبار ذات درجات الحرارة العالية جداً. أمّا المعادن مثل النيوديميون، والبراسيوديميوم، والديسبروسيوم، فهي أساسية في صنع المغناطيسات المستخدمة في توربينات توليد الطاقة من الرياح، إضافة إلى استخدامها في محركات السيارات الكهربائية. وفيما يزداد التوجه نحو الاستغناء عن الوقود الأحفوري، يزداد الطلب على هذه المعادن بسبب دورها في عملية نقل وتخزين الكهرباء المنتجة باستخدام وسائل إنتاج الطاقة المتجددة. وتستخدم المعادن النادرة كذلك كعوامل مساعدة في أنظمة العادم التلقائي للمساعدة في تقليل الانبعاثات، وهو ما يجعلها ضرورية تحديداً بالنسبة إلى الدول المتجهة نحو الاقتصاد الأخضر المعتمد على التقليل من انبعاثات غازات دفيئة.

بسبب خصائصها الكيميائية الفريدة، تجعل المعادن النادرة من الأجهزة الإلكترونية أخفّ وأصغر حجماً وأكثر كفاءة

وفي المجال الدفاعي، تُعتبر المعادن النادرة ضرورية للاستخدام في عدد من التقنيات، وتشمل الاستخدامات صناعة نظارات الرؤية الليلية، وأجهزة الكشف عن الأشعة تحت الحمراء، وأنظمة التوجيه في الصواريخ الذكية الموجهة بدقة.

هيمنة صينية

تمتلك الصين نحو (37%) من الاحتياطي العالمي للمعادن النادرة، تليها البرازيل، ثم فيتنام، وروسيا، في حين لا تملك الولايات المتحدة الأمريكية سوى منجم واحد فعّال حالياً، في كاليفورنيا، وحتى هذا المنجم يتمّ تصدير مستخلصات المعادن النادرة منه إلى الصين لتتم معالجتها هناك.

استخراج المعادن النادرة من أحد المواقع في الصين

ورغم توافر المعادن النادرة في دول أخرى حول العالم، إلا أنّ الهيمنة الصينية تستمر بسبب قيامها بتوقيع عقود التنقيب عن هذه المعادن في الدول الغنية بها. وعلى سبيل المثال، فإنه لا يوجد سوى (3) مناجم بالعالم يمكن أن تنتج معدن السيزيوم؛ واحد في ولاية "مانيتوبا" الكندية، وواحد في زيمبابوي، ومنجم في أستراليا، وجميعها تخضع لسيطرة الشركات الصينية.

اقرأ أيضاً: وصول النفط الإيراني إلى لبنان... ما آلية التوزيع التي وضعها حزب الله؟

وتسيطر الصين على هذه الصناعة بمراحل إنتاجها المختلفة، بدءاً من معالجة المواد الخام وصولاً إلى تكريرها وإنتاج المخرجات النهائية المعدة للاستخدام في التصنيع. وفي عام 2017، أنتجت الصين نحو (80%) من المعادن الأرضية النادرة المنتجة في العالم. وبحسب أرقام الإدارة العامة للجمارك في الصين، فإنّ الصادرات الصينية بلغت (45,552) طناً مترياً من المعادن النادرة، وبقيمة (398.8) مليون دولار في العام 2019، وذهب نحو (36%) من الصادرات إلى اليابان، ممّا يجعلها الوجهة الأولى للمعادن الصينية النادرة، وجاءت الولايات المتحدة في المرتبة الثانية، بحصة بلغت (33.4%) من الصادرات.

اقرأ أيضاً: لبنان وفخ "حزب الله" النفطي

ووفقاً لأرقام هيئة المسح الجيولوجي الأمريكي، وفّرت الصين قرابة (80%) من احتياجات الولايات المتحدة الأمريكية من المعادن النادرة بين عامي 2014 و2017، واستمرت الأرقام عند هذه الحدود كذلك في العام 2019، وهو ما يعني أنّ الصين حالياً تستطيع حرمان الولايات المتحدة من إنتاج أهمّ منتجاتها التكنولوجية والرقمية، بما في ذلك جهاز مثل "الآي فون"، بل إنها تستطيع منعها من إنتاج وتطوير صواريخها الذكية، وكلّ ذلك فقط من خلال قرار إيقاف تصدير هذه المعادن إليها.

من جنوب شرق آسيا إلى أفغانستان

وبهدف تكريس هيمنتها على هذه المعادن، سعت الصين للوصول إلى مصادرها في الدول الأخرى، فكان التوجه الصيني باتجاه ماليزيا، وفيتنام، ولاوس، وكمبوديا، وغيرها من الدول التي تحتوي على مخزونات منها. وفي ميانمار، حاولت شركات أمريكية التوجه نحو استثمار موارد المعادن النادرة، مزاحمةً الصينيين هناك، إذ وصلت واردات الصين من هذه المعادن من ميانمار إلى حوالي (35,500) طن في عام 2020، ومن ثم يتم معالجتها في الصين وتصديرها إلى سائر المصانع في العالم.

أحد المواقع التي تعمل شركة (MP Materials) على استخراج المعادن النادرة منه، في مقاطعة سان بيرناردينو بكاليفورنيا

وفي أفغانستان، حيث يختزن باطن الأرض المعادن النادرة، وحتى قبل سيطرة حركة طالبان على كابول في آب (أغسطس) 2021، كانت الشركات الصينية قد بدأت بالدخول للتنقيب واستخراج المعادن من المناجم هناك، وتطلب ذلك من الصين التنسيق والتواصل مع حركة طالبان بغرض تأمين وتسهيل وصول الشركات الصينية إلى المناجم الواعدة.

خيارات بديلة، من أفريقيا إلى أمريكا

ولم يكن من الممكن أن تظل القارة الأفريقية بعيدة عن ساحات الصراع والتنافس حول المعادن النادرة، وذلك بالنظر لما تحويه من كميّات مهمّة منها، ممّا شجّع الدول الغربية على النظر إلى أفريقيا على أنها البديل الأنسب للحدّ من الهيمنة الصينية على هذه المعادن. وعلى هذا الأساس جرى تحديد عدد من دول جنوب وشرق أفريقيا لديها رواسب عالية الجودة من المعادن النادرة، وتشمل كلاً من: ناميبيا، وجنوب أفريقيا، وكينيا ومدغشقر، ومالاوي، وموزمبيق، وتنزانيا، وزامبيا، وبوروندي.

اقرأ أيضاً: اتهامات بتورطه في الهجوم على ناقلات النفط.. من هو أمير علي حاجي زاده؟

لكن، ورغم توافر المعادن النادرة في هذه البلدان، إلا أنّها في المدى القريب يصعب أن تنافس الصين، إذ تفتقر هذه الدول إلى الإمكانات المطلوبة لزيادة الاستكشافات، فضلاً عن المعالجة والتكرير، إضافة إلى استمرار حالات عدم الاستقرار السياسي والاضطرابات في كثير منها.

وفقاً لأرقام هيئة المسح الجيولوجي الأمريكي، وفّرت الصين قرابة (80%) من احتياجات الولايات المتحدة الأمريكية من المعادن النادرة بين عامي 2014 و2017

وضمن التوجه نفسه، والهدف للتقليل من الاعتماد على الصين في توفير المعادن النادرة، اتجهت الولايات المتحدة الأمريكية لتشجيع الإنتاج المحلي، وهو ما بدأ رسمياً مع إصدار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب أمراً تنفيذياً بتشجيع الإنتاج المحلي الأمريكي من المعادن النادرة. ويبرز تحديداً المشروع الذي يعمل عليه الأمريكيون شرق مدينة "إل باسو" بولاية  تكساس، إضافة إلى عمليات الاستخراج من منجم "ماونتن باس" في ولاية كاليفورنيا. وتعتبر شركة "إم بي ماتيريالز" (MP Materials) الأمريكية من أهمّ الشركات الأمريكية الناشطة في هذا المجال، ويوجد شركات أجنبية، كمجموعة "ليناس" الأسترالية التي فازت بعدة عقود في الولايات المتحدة، من ضمنها عقد لإقامة مصنع تكرير للمعادن النادرة في تكساس مخصص للصناعات العسكرية.

اقرأ أيضاً: المساعدات السعودية النفطية تواصل تدفقها إلى اليمن

بالرغم من ذلك، ما تزال الهيمنة الصينية مستمرة على المعادن النادرة، وهو ما سيبقى كذلك ضمن المدى المنظور، وفي ظل هذه السيادة فإنّ هذه الهيمنة تبدو ورقة فعّالة تحتفظ بها الصين في مواجهة أيّ ضغوط سياسية واقتصادية قد تتعرّض لها من القوى الغربية، وبحيث تهدد مباشرة بإيقاف الصادرات من هذه المعادن إلى الدول الغربية؛ ممّا يعني التسبب بانهيار اقتصادياتها القائمة بشكل كبير على الصناعات التكنولوجية الحديثة.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية