الشبع من الدنيا.. "نعم لقد عشت"

الشبع من الدنيا.. "نعم لقد عشت"


03/11/2020

"الحِكمة أنْ تختار ما تتجاهله" ... قول قديم، يقدّم خزيناً من العقلانية والخبرة التي تقول: بعضُ الصمت أجدى من الكلام، وبعضُ الأشياء هي في الظلّ أكثر جمالاً منها تحت تركيز الضوء. وجمال الشمس ودفئها لا يمنع فتنة الظل وسكونه، وهكذا هي الدنيا: "اختيارٌ مِنْ متعدد"، والحكيم فيها منْ عرَف ما ينبغي عليه تجاهله فاختاره. والخبير منْ أدرك أيّ الأوقات لا تكونُ فيها "الصراحة راحة"، ويكون كظم المشاعر والانطباعات خيرٌ من الوضوح والبَوح.

قصور البشر ونقصهم لا يجعلهم بشعين ولا ينفي عنهم خِصال الخير والجمال والإبداع

لسنا ملائكةً، أو مُطلَقي الكمال والنقاء، فالنقص والقصور جزءٌ أصيلٌ من بنية الإنسان. لكنّ الرغبة في مطاولة المثال والكمال، كانتْ دوماً محرّك الحضارات والأفكار والفنون والآداب وصناعة الذوق والتمدن والقوة على امتداد التاريخ. ولا تكتمل حيازة الحكمة الإنسانية، وخبرتنا في الحياة والناس والأشياء، إلا إذا أدركنا ذلك القصور فيهم/فينا، وتعايشنا مع نقصهم/ نقصنا، وتذكرنا أنهم لم ولن يكونوا يوماً "كاملين"، ونحن بالطبع كذلك.

انتظار الكمال ينطوي على سذاجة وضحالة خبرة في الحياة، بالقدر الذي ينطوي عليه منْ تعجّلٍ في الحُكم على الأشياء، وتسرّعٍ في الإحاطة بها، وقلّتْ حيلته في سبر أغوارها.

اقرأ أيضاً: تَحضُرُ الحياةُ.. حين نلتفتُ إليها

مثلاً، للنظرة الأولى تبدو المعشوقة باذخة الكمال، غير أنّ الأيام والمخالطة والاحتكاك اليومي عنْ كثب، تُظهر لنا صورةً أكثر واقعية لتلك المعشوقة، بعيدة عن المُطلق والكمال، لكن (وهذا هو المهم)، ليس بالضرورة أنْ تكون هذه الصورة الأكثر واقعية أقلّ جمالا وبهاءً ولَوْعةً. والوصول إلى هذه النتيجة يرتبط بمنسوب الخبرة والحكمة اللذين نحوزهما، والسؤال عن قائمة أولوياتنا في النظر إلى الذات والآخر والعالم من حولنا.

قصور البشر ونقصهم لا يجعلهم بشعين، ولا ينفي عنهم خِصال الخير والجمال والإبداع، وليس هذا في البشر وحدهم، بل في الأشياء جميعها، ولو اكتملتْ بضاعة أو صناعة أو تجارة لما تفتّق العقل البشريّ عنْ أيّ منتج أو اختراع جديد، يقدّم إضافة ما، ويجبر نقص المنتج السابق ويتخطى عوراته، التي لا تتبدى إلا مع التجريب والانغماس فيها، ليأتي بعد الجديد الأكثر جِدّة، معالجاً نقصاً ومللاً، وهكذا دواليك. وفي أغنية جميلة للفنان السعودي محمد عبده للتحريض على الوفاء للحبيب، والتركيز على جماله لا جمال الغير:

اقرأ أيضاً: ترويض الذات.. كيف تدير الملل؟

"ما رُحتْ أدوّرْ كُلِّ زُولٍ تِحلّى... لولاكْ تِسْوى ما عَطيتَكْ خَفُوقي".

إذاً، لنتفقْ على أنّ ثمة ترابطاً وثيقاً، هو أقرب إلى التواطؤ، بين اكتساب الحكمة والخبرة في الحياة، وبين إدراك نقص البشر والأشياء والأفكار ونقص ذواتنا أساساً، ولعل هذه الخُلاصة هي ما حاك بصدر بشّار بن بُرد حين قال:

" إذا كنتَ في كل الأمور معاتباً ...صديقك لمْ تلقَ الذي لا تُعاتبه

فَعشْ واحداً أو صِلْ أخاك فإنه... مُقارِفُ ذنبٍ مرةً ومُجانِبه

إذا أنتَ لم تشربْ مِراراً على القذى... ظمئتَ وأيّ الناسِ تصفو مشاربه".

إنّ هذا النقص وهوى النفس ومطامعها، هو ما جاءت الأديان والدعوات والمصلحون والفلاسفة والآداب والفنون والعلوم على مر العصور لتضييق مساحته، وجعله أقلّ حجماً واتساعاً، وملخص الرسالة التي تبعث بها هو تفعيل الإرادة، ومجاهدة النفس، والتحلي بالصبر، و"ضبط الأعصاب" للوصول المشتهى إلى حدود "المثال" الفكري والأخلاقي الذي تقدمه الرسالات السماوية والدعوات الأخلاقية الأرضية وإبداعات البشر واختراعاتهم وفنونهم.

اقرأ أيضاً: جزاء الإحسان.. وقصّة ماجد: هذا ما تخبرنا به الحكاية

نحن نخسرُ في حياتنا الكثير من الناس حين لا نقدّر قيمتهم، وأساس عدم التقدير هذا نابعٌ أحياناً من وهمنا أنهم كاملون، أو بعيدون عن مقارفة الحسد والأخطاء والأنانية والنرجسية والغيرة وتقلّب المزاج...

أزعمُ أنّ مَنْ لم تتجاوز نسبة تلك الصفات السالبة الـ 25 ـ 30% من ذاته وكيانه وسلوكه وطباعه، هو شخصٌ جدير بالمحبة والصحبة ومشاركتنا مشوار الحياة. والمهم، على الرغم من قسوة ذلك على نفوسنا، أنْ نتذكر أنّ من مقتضيات الحكمة، كما يقول الأمريكي ويليام جيمس (أحد أهم روّاد علم النفس الحديث) أنْ تعرف ما يجب أنْ تتغاضى عنه.

هذه الواقعية تقود إلى تمكين الرضا في النفس، وهي صفة أساسية للسعادة والعيش الهنيّ.

"نعم لقد عِشْتُ"... بوحٌ نادرٌ يتجرؤ قليلون على اقترافه والاعتراف به بينهم وبين أنفسهم، وفي حواراتهم الداخلية مع ذواتهم، أو ربما يعلنون ذلك لمن حولهم وللآخرين.

وهذا البوح الموازي للاعتراف بالشَّبع من الحياة ينبغي أنْ يثير شهية التساؤلات عن أسبابه وظروفه وموجباته، وكل ما من شأنه إنتاج هكذا شعور، يتمنى جميعنا أنْ يمسك بتلابيبه ويحوز أسراره.

والحقيقة هو أنّ العقل والشعور هما اللذان يشبعان قبل أنْ يشبع الجسد، وما لم يكنْ الإشباع ناجماً عن قناعة عقلية وبنية نفسية تبدد معوقات الإشباع وموانعه، فسيبقى الجوع سرمدياً وغير قابلٍ للتفكيك أو التحلل.

اقرأ أيضاً: التربية الأخلاقية الفعالة ومحو الأمية العاطفية

إنّ منبع "نعم .. لقد عِشْتُ" هو الرضا عن الذات والتصالح معها، وكفّ الأذى، ويقابله الإحساس الناقص بالذات، الذي يحفّز الجوعى إلى معالجته بتملك الأشياء، معتقدين أن باب السعادة مفتاحه المزيد من التملك، أو الانتقاص من ذوات الآخرين، وعدم الفرح بهم وبنجاحاتهم.

لن يأتي الإشباع الذاتي، ولن يصافحك ذاك الشعور الفاتن المختزل في عبارة "نعم لقدْ عِشتُ" ما دمتَ، كما يقول إيكهارت تول، تعاني وعياً طفولياً أو وعياً مُراهقاً يدفعك أنْ ترى السعادة في التملك؛ الذي يتحوّل إلى مرض أشد خطورة هو "التطلّب" المستمر، وهو ليس سوى حالة من السلبية والضجر والامتعاض، (ولا يعبّر بالتأكيد عن ذاك الشغف الصحيّ بالحياة وطقوسها الغنية). وعند هذه الحالة المَرضية لا يعود شخص أو مكان ما أو أيّ شغف أو حالة عشق أو شكل من الطعام والشراب ... يحقق لك أيّ إشباع أو رضا، والنتيجة بالطبع جوعٌ مكثّفٌ، ونَهَمٌ مرَضيّ لا يرتوي، وبحث عن رضا وسعادة لا يأتيان حقيقة مهما كان الشكل باذخاً أو يدعو للغبطة أو الحسد!

نخسرُ في حياتنا الكثيرين حين لا نقدّر قيمتهم، وأساس عدم التقدير هذا نابعٌ أحياناً من وهمنا أنهم كاملون

نصيحة العارفين بالنفس، والعالمين بأسرار الرضا والإشباع والسعادة تقول: من المهم أنْ لا تساوي بين هويتك وجسدك، ومن المهم أنْ لا تقيم علاقة تماهٍ بين ذاتك وبين ما تملك.  ذاتك يجب أنْ لا تُحدد قوةَ شبعها ورضاها كميةُ ما تملك. السعداء الحقيقيون يركّزون أنظارهم على الأشياء البسيطة، فهي منجمٌ لا ينفد من البهجة والمتعة والاسترخاء.

المهم أيضاً أنّ هذا القول ليس فيه دعوة للسلبية أو القَدَرية أو قمع الرغبة الإنسانية الأبدية في التملك والطموح والتفوق والرغبة الدفينة والدائمة في التجدد، وفي أنْ نكون ـ ونظل ـ أقوياء، أو نبقى، ما استطعنا، محتفظين بالجمال أو الوسامة والنظارة والإشراق. ليس هذا هو المقصود بكل الأحوال، بل المقصود القول إنّ احتمالات أنْ نفقد ما نملك من مال أو جاه أو جمال أو صحة .. أمر وارد وهو من طبيعة هذه الحياة ونواميسها. ولذا من المهم برمجة الذات على عدم إيجاد علاقة تطابق بين الأنا وبين ممتلكاتك، أو بين الأنا وتحولات الجسد الإجبارية نتيجة السن أو المرض أو خلافه. من المهم أنْ لا تنظر إلى سعادة الآخرين على أنها انتقاص من حصتك في السعادة والهناءة!! من المهم ألاّ تقيم علاقة ضِدية بين أن تتألم وتتعب وبين أن يكون ذلك بالنسبة إليك مساوياً للتعاسة. فمن غير المتوقع أنْ يتوقف الألم أو الإحباط أو غيرهما من الحياة أبداً، إنها مكونات أساسية في هذه الدنيا، والتحدي الأهم أنْ لا نجعلها المكوّن الوحيد، بل أنْ نخلطها بمكونات أخرى، تمتص من الألم دسمه وتُفقدُ الإحباط غلواءه، وتنزِع عنه أنيابه.

"نعم لقد عِشتُ" ... ليستْ وصفة لحياة بلا مشاكل وتحديات.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية