السودان: بعد تدمير القصر الجمهوري.. تعرف إلى تاريخه ورمزيّته

بعد عمر ناهز قرنين من الزمان: حرب الخرطوم تدمر القصر الجمهوري وتهشم رمز السيادة الوطنية

السودان: بعد تدمير القصر الجمهوري.. تعرف إلى تاريخه ورمزيّته


11/05/2023

بعد يوم واحد من استسلام مفرزة مكونة من (130) ضابطاً وجندياً من منسوبي الحرس الجمهوري إلى قوات الدعم السريع ـ كما أظهر مقطع فيديو- مشفوع ببيان أصدرته قوات الدعم السريع ونشرته على صفحتها الرسمية في 8 أيار (مايو) الجاري؛ ممّا أثار حفيظة قادة الجيش، وجّه الطيران الحربي التابع للجيش السوداني ضربة بالصواريخ إلى القصر الجمهوري القديم؛ ممّا أدى إلى تدميره بالكامل.

ويُعدّ القصر الجمهوري أحد أبرز رموز السيادة الوطنية، والمقر الرسمي لرئاسة الجمهورية، وفيه مكاتب أعضاء مجلس السيادة، وإدارات رئاسة الجمهورية ومكتبة عامة وأخرى وثائقية تحتوي على وثائق تاريخية نادرة وثمينة، ومتحف يضم بين ظهرانيه كافة المقتنيات والهدايا الخاصّة برئاسة الجمهورية عبر الحكومات المتعاقبة.

وبدكّ القصر الجمهوري وتدميره، يبلغ الأثر النفسي على السودانيين المدنيين أقصى مداه؛ إذ بدا ذلك للجميع كأنّه محاولة لتخريب وجدانهم وتدميرهم نفسياً ومعنوياً.  

سراي الحكمدارية

قبل نحو (200) عام، في عام 1825، خلال عهد حكمدار السودان عن خديوي مصر محمد علي باشا، جركسي ميرالاي أول عثمان بك، كانون الأول (ديسمبر) 1824- أيار (مايو) 1825، شرع الضابط الإداري محو بك أورفلي، بأمر الحكمدار، في تأسيس سراي الحكمدارية ليُصبح رمزاً لسيادة الدولة الخديوية على السودان، والتي اكتملت عام 1821، فأكمل بناءه من اللبن (الطين) على ضفة النيل الأزرق، بمبنيين للإدارة والسكنى في عام 1826، وكان السراي مميزاً في ذلك الوقت الذي كانت فيه الخرطوم قرية صغيرة بائسة ترقد بخمول بين النيلين الأبيض والأزرق، ويعيش سكانها في أكواخ صغيرة متناثرة مبنية من (القش).

لم يمكث عثمان بك كثيراً، فقد تم استدعاؤه إلى مصر في آب (أغسطس) 1826، وخلفه جركسي علي خورشيد آغا باشا، آب (أغسطس) 1826ـ كانون الأول (ديسمبر) 1838، وقد أضاف الكثير من التحسينات والترميمات والتوسعة على السراي حتى اكتماله عام 1834، وظل على حاله في حقب الحكمدار جركسي أحمد باشا، 13 كانون الأول (ديسمبر) 1838ـ 25 تشرين الأول (أكتوبر) 1843، والحكمدار قولة لي منكلي أحمد باشا، 7 آذار (مارس) 1845ـ 13 كانون الأول (ديسمبر) 1845، والحكمدار أستانة لي خالد باشا 13 كانون الأول (ديسمبر) 1845ـ 5 تشرين الثاني (نوفمبر) 1849.

وفى عهد الحكمدار جركس لطيف باشا، 11 حزيران (يونيو) 1849ـ 13 كانون الثاني (يناير) 1852 تمّ هدم السراي المبني من الطين تماماً، وأُعيد تشييده من الطوب الأحمر (الآجر) والحجر الرملي من طابقين وجناح للزوار وحرملك (جناح النساء)، وأُلحقت به حدائق احتوت على أشجار مثمرة وأشجار زينة ونجيل وعرائش عنب. ومنذ ذلك الوقت؛ أي بُعيد اكتماله بشكله ومبناه الجديد في عام 1851، حافظ القصر على هيئته، مع بعض الترميمات والإضافات غير المؤثرة، إلى حين قصفه من قبل طيران الجيش السوداني وتدميره في 9 أيار (مايو) 2023.

قصر الحاكم العام

بعد (31) عاماً من اكتماله حلّ بسراي الحكمدارية الجنرال الإنجليزي تشارلز جورج غوردون، كانون الثاني (يناير) 1883ـ كانون الثاني (يناير) 1885، والذي شهد عهده ثورة وطنية عارمة بقيادة رجل الدين محمد أحمد الذي ادّعى المهدوية، ولقب بالمهدي، حيث أطيح بغوردون وقطع رأسه، وانتهى بذلك عهد الدولة الخديوية بالسودان، لكن لم يتم تدمير سراي الحكمدارية، كما لم يتم استخدامه باعتباره رمزاً للمستعمر، وترك كأثر دالّ على ظلمهم وتعسفهم، فيما نقل (المهدي) عاصمته إلى أم درمان التي سمّاها (البقعة المباركة).

 الجنرال الإنجليزي هربرت كتشنر

وبعد (13) عاماً من حكم الدولة المهدية، عاد للسراي ألقه بحلول الجنرال الإنجليزي هربرت كتشنر بين ظهرانيه حاكماً عاماً على السودان، بعد أن انتصر في معركة كرري الفاصلة، شمالي أم درمان على جيش المهدية في أيلول (سبتمبر)عام 1898؛ وفرّقه شذر مذر.

لم يُجر الجنرال كتشنر أيّ ترميمات أو تحسينات على سراي الحكمدارية، فقط غير اسمه الرسمي إلى قصر الحاكم العام، إذ لم يمكث الرجل طويلاً في منصبه، وخلفه عليه الضابط الأسكتلندي فرانسيس ريجنالد وينغيت (1899ـ 1916)، فحوّل القصر إلى معمار من الأبهة على طراز المباني الأوروبية الفخمة في القرن السابع عشر الميلادي، مع إضفاء لمسة شرق أوسطية على عرصاته وشرفاته وأبوابه ونوافذه.

القصر الرئاسي

ومنذ ذلك الحين، ومع توالي الحكومات الاستعمارية والوطنية وصولاً إلى حقبة الإخوان المسلمين 1989، كان اسم القصر قد تبدل إلى القصر الجمهوري، وظل محتفظاً بهذا الاسم إلى حين وصول الجنرال عمر البشير إلى الحكم، حيث قرر عام 2015 تشييد قصر آخر موازٍ له، بتصميم يماثل نظيره القديم، وأطلق عليه القصر الرئاسي؛ لكنّه ترك القصر الجمهوري القديم على حاله، دون أن يمسّه بسوء، بل ظل القصران المتجاوران يُستخدمان في إدارة الدولة جنباً إلى جنب.

الضابط الأسكتلندي فرانسيس ريجنالد وينغيت

وتأتي رمزية القصر الجمهوري من جهة أنّه المكان نفسه الذي تمّ إنزال العلمين الإنجليزي والمصري من ساريته، ورفع مكانهما العلم السوداني إيذاناً باستقلال البلاد ونيلها حريتها في الفاتح من كانون الثاني (يناير) 1956.

ويقع القصر القديم، الذي تم تدميره الثلاثاء، على ضفة النيل الأزرق أقصى شمال الخرطوم، يحدّه من الشمال شارع النيل، ومن الجنوب شارع الجامعة، وشارع أبي سن من الشرق، ومن الغرب شارع مهيرة، ويمتد على مساحة 1926 متراً مربعاً، ويضم مكاتب الرئيس ونوابه وقيادة الحرس الجمهوري ووزارة شؤون رئاسة الجمهورية، بجانب متحف ومكتبة، ومسجد، وجميع هذه المباني محاطة بالمسطحات الخضراء.

مكتبة القصر

وتُعدّ مكتبة القصر إحدى أهم المكتبات في البلاد، حيث تمثل مصدراً مهماً لتوثيق حقب الحكم والإدارة والتاريخ السياسي، وتحوي الكتب والمكاتبات والمراجع النادرة، وقد أعيد تأهيلها عام 1999، وأتيحت خدماتها للزوار والباحثين، حيث توفر لهم المصادر والمراجع والوثائق، كما تضطلع بمهمة جمع وحفظ التراث الفكري وإتاحته للمستفيدين، فضلاً عن احتوائها على مجموعات مختلفة من المصادر والمراجع والدوريات والموسوعات والقواميس باللغتين، العربية والإنجليزية، ويبلغ عددها (5600) كتاب مسجلة بسجل قيد المكتبة ومفهرسة على حسب قواعد الفهرسة الإنجلو أمريكية، ومصنفة على تصنيف ديوي العشري.

وتضم المكتبة، بجانب تلك الوثائق والمصادر والمراجع، أرشيف رئاسة الجمهورية الذي يحتوي على كمٍّ هائل من الملفات والوثائق المهمة، متمثلة في القرارات الجمهورية والمراسيم وملفات الإدارات المختلفة والاتفاقيات الدولية والقوانين والخطابات الرئاسية.

تُعدّ مكتبة القصر إحدى أهم المكتبات في البلاد

كلّ ذلك ضاع هباءً منثوراً بصواريخ أطلقها الطيران الحربي التابع للجيش السوداني على المبنى، فدكّه بما حوى، في صراع يائس وعدمي وعبثي على السلطة بين الجيش وقوات الدعم السريع التابعة له والتي أسسها وموّلها وسلّحها وشرعنها بمراسيم وقوانين عام 2013 لمساندته في الحرب الأهلية التي كانت تدور في إقليم دارفور منذ عام 2003، فيما أخليت وحدات الدعم السريع التي كانت مرابطة هناك قبيل الضربة بساعات دون أن تصاب بأذى، وفقاً لتقارير متطابقة وشهود عيان.  

مواضيع ذات صلة:

مأساة اللاجئين الإريتريين في السودان: هل عقد الجيش صفقة مع نظام أفورقي؟

هل سيتحول الصراع في السودان إلى حرب أهلية شاملة؟.. قراءة في الواقع والمعطيات

البرهان وحميدتي إلى طاولة حوار... والشعب السوداني إلى كارثة إنسانية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية