لطالما ارتبطت كلمة الروحانية بالتديّن ومظاهره، ولطالما كانت الصورة النمطية للتديّن تتمثل في الالتزام بالنص الديني مهما تغير الزمان والمكان من حوله.
فمثلاً، التمسك بآية برّ الوالدين في القرآن الكريم "وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا" (سورة الإسراء 24) تُعدّ من الروحانيات الإنسانية، كونها تسمو بالإنسان البار بوالديه في سن الوهن ليقيهما من الذل وهوان المرض، ويُعدّ ذلك توحّداً مع الألوهية حسب النص.
الروحانية أصبحت تخرج من إطار العبادات إلى إطار الممارسات الاجتماعية الإنسانية
برّ الوالدين الذي نصّت عليه الآية القرآنية قيمة إنسانية قد نجدها لدى المؤمنين من كافة العقائد ومن قبل الإسلام ذاته، نذكر مثلاً ما ورد في النص العبراني في الوصايا العشر في التوراة، والذي يقول "أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ لِكَيْ تَطُولَ أَيَّامُكَ عَلى الأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ"، أمّا الديانة الهندوسية، وهي ديانة غير إبراهيمية، فهي تحث على رعاية الوالدين، بل وترفع الآباء والأمهات إلى مرتبة الآلهة، فتصبح رعايتهما عبادة.
ولدى اللّادينيين نماذج إنسانية تتفانى في رعاية الوالدين، ولعل هذا ما تطرّق إليه بحث ميداني بعنوان:Challenges of Mental Health Caregiving / أو تحدّيات الصحة الذهنية لمقدّمي الرعاية لكبار السن، الصادر العام 2014 عن معهد (روزالين كارتر) لرعاية المسنين في أمريكا، وفيه تطرّق مجموعة باحثين في مجال العلاج النفسي إلى الدوافع الأيديولوجية وراء رعاية الأبناء للوالدين والمسنين، والتحديات النفسية التي يواجهونها.
تطرّق البحث إلى دور العقيدة الدينية في ذلك، لكنه رصد أيضاً دوافع إنسانية من الأبناء اللّادينيين، الذين تراءى لهم أنّ ما يفعلونه مسؤولية "روحانية" تجاه الوالدين، هذا بخلاف الفكرة الشائعة عن اللّادينيين بأنّهم يفتقدون الإنسانية والروحانية والبوصلة الأخلاقية في صورها كافة.
في سبيل بلوغ الروحانية والإخاء
النص الديني الإسلامي في عمومه متنوع ما بين التعاليم والأحكام، حيث شرعت بعض الآيات (خاصة المدنية منها) في خضم النزال وخوض الغزوات في زمن النبوّة، فهل يمكن التمسّك اليوم بتطبيقها بشكل مطلق لا يراعي ظروفها نزولها التي تعد جزءاً أساسياً لفهمها؟
فمثلاً آية فرض الجزية "حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ" (التوبة -29) التي جاءت بعد غزوة تبوك، تمّ تعطيلها في النظام المدني المعاصر، إذ إنّ تطبيقها في زماننا بمعزل عن حيثياتها المذكورة يعد انتقاصاً من قيمة التعايش المشترك بعدما أصبح المواطن، أيّاً كانت ديانته، دافعاً للضرائب التي من المفترض أن تُوجّه للخدمات التي ترتقي بآدميته، لا الجزية التي كان يدفعها صاحب عقيدة مغايرة للأغلبية المسلمة في مقابل الدفاع عنه في زمن ماضوي، في ظروف مختلفة.
فتعطيل هذا الحكم لا يُعدّ هجوماً على العقيدة، بل يُعدّ سموّاً وتعايشاً مع الآخر، ومراعاةً لظروف تختلف مع الظروف التي شهدت الوحي بهذا النص في السنة التاسعة من الهجرة؛ فالتعايش مع الآخر، أيّاً كانت عقيدته، يُمثل درجة من درجات الروحانية الإنسانية التي حرص القرآن الكريم على تأكيدها في آياته التأسيسية التي لا تخضع لزمان ومكان.
مفهوم الروحانية وتطورها
الروحانية في اللغة العربية مستوحاة من (الروح)، وتُعدّ الروحانية قيمة تسمو على الماديات، حسب ما ورد في معجم المعاني الجامع. وهذا المصطلح مستمد كذلك من كلمة spiritus في اللاتينية، وتعني الروح أيضاً، ومنها انبثقتSpirituality بالإنجليزية، و spiritualité بالفرنسية.
الروحانية اللّادينية لا تعادي حق الآخرين في التدين لكنها ترفض فرض نمط التدين على الأفراد عنوة
لا يوجد تعريف جامع مانع للروحانية، وخاصة أنّ مفهومها تطوّر عبر القرون، من مفهوم ديني خالص يتوحد فيه الإنسان مع روح الله، إلى مفهوم عصري جعل من الروحانية مرادفاً للإنسانية وسعي الإنسان للبحث عن معنى في الحياة.
بل اختلف المفهوم من الإيمان بعالم خارق للطبيعة، إلى الإيمان بالإخاء والتضامن الروحي مع وحدة الجنس البشري، على الرغم من أي اختلافات في العقيدة أو الميول الشخصية.
ولعل الأمر يفتح تعريفاً جديداً للروحانية، فهي ليست بالضرورة توحّد الإنسان مع روح الخالق، وإنما توحّد الإنسان مع روح غيره من البشر في التصور الإنساني أو ما يُطلق عليه Humanism.
وهكذا، فإنّ الروحانية تخرج من إطار العبادات إلى إطار الممارسات الاجتماعية الإنسانية، وهو ما يُمكن رصده من خلال دعم مجموعة من اللّادينيين البيض للحركة الحقوقية التي قادها القس الأمريكي من أصول أفريقية (مارتن لوثر كينج) للقضاء على التمييز العنصري في الستينيات، ومن بين هؤلاء اللّادينيين Philip Randolph، وهو الرجل الذي وقف إلى جانب لوثر في مسيرة واشنطن العام 1963، حين ألقى خطبته الشهيرة "لديّ حُلمI have a dream ".
شهد مفهوم الروحانية بلا تدين تطوراً آخر حين تم الفصل التام بين الروحانية والدين
وتعدّت الروحانية الإنسانية في بعض أطرها مسألة التآخي الروحاني بين البشر، وأصبحت في حالة إخاء مع الحيوانات ومخلوقات الكون عموماً، لهذا نجد أنّ كثيراً من الروحانيين هم من النباتيين، وقد ارتبطت النباتية في التصورات الشعبية بالإلحاد، كون أصحابها يمتنعون عن تناول ما أحلّه الله تعالى، بالرغم من أن النباتيين ليس لديهم عقيدة دينية بعينها تجمعهم، فمنهم المؤمن ومنهم اللّاديني.
في هذا السياق تقول الباحثة والطبيبة Christina Puchalski، وهي رئيسة معهد جورج واشنطن للروحانية والصحة Spirituality and Health institute: إنّ الروحانية جزء من قيمة الإنسانية التي تساعد البشر على فهم معنى الحياة والسعي للتجانس مع الآخرين ومع الطبيعة ومخلوقاتها، كما تستند الروحانية إلى إدراك السلامة النفسية بعيداً عن عالم الماديات.
روحانية بلا تديّن إلى روحانية لادينية
لطالما كان الإصلاح الديني الكنسي في أوروبا والتصوف الإسلامي بمثابة مداخل لدراسة تأثير فلسفة الروحانية وأنسنة الأديان على سيكولوجية الشعوب، وكيف يُمكن أن تؤثر تلك الروحانيات الدينية على نبذ العنف الديني المؤسس على قراءة أصولية للنص، ومن ثم مرّت فلسفة الروحانية بتطور جعلها تتقاسم بعض الصفات مع الأديان، فتتقاطع الطرق لكن لا تتطابق في كل المناحي. أي إنّ هناك تصورات دينية عديدة تجمع بين التدين والروحانية الإنسانية، لكن الروحانية لا تتوقف عند حاجز التدين بالضرورة.
أمّا التطور المعاصر في فلسفة الروحانية، فقد جاء عن طريق ظهور فلسفة الروحانية بلا تدين، وهي عبارة ازدادت شيوعاً في العقود الماضية؛ يقول جون بارتونك مؤلف كتاب "روحانية بلا تدين: البحث عن معنى للحياة في العالم المادي"، الصادر العام 2019، إنّ بعض الناس يبحثون عن معنى أعمق للحياة بعيداً عن المؤسسات الدينية أو التصورات المجتمعية الدينية التي لا يحق للفرد أن يراجعها أو يتفكر فيها، وبالتالي فهؤلاء يؤسسون لحالة روحانية لا تعترف بأشكال التدين النمطي لكنها ليست منفصلة تماماً عن الدين وإنما عن أنماط التدين.
وربما تعود بدايات هذه الفكرة إلى كتابات المؤرخ الأمريكي وليام جيمس (1842-1910) الذي أسّس لنظرية (فردانية التجربة الدينية)؛ أي التعامل مع الدين وتفسيراته الإيمانية من منظور فردي بعيداً عن النظرة السوداوية العامة التي قد تسيطر على التصور الديني لدى الجموع، هنا يتحرر الفرد من الدين المؤسسي أو المُنظّم organized Religion .
لكن شهد مفهوم الروحانية بلا تدين تطوراً آخر، حين تم الفصل التام بين الروحانية والدين، فأضحى هناك نمط من الروحانية اللّادينية. ويكتب عن هذه النظرية الكاتب الأمريكي سام هاريس الحاصل على درجة الدكتوراه في تخصص علم الأعصاب المعرفي، والذي يسعى إلى دراسة العمليات الدماغية المكونة للمعرفة، فيقول في كتابه "الصحوة: نحو روحانية بلا دين" الصادر في العام 2014، إنّ الروحانية عبر التأمل لا تتعارض مع العلم، بل تزيد من وعي الإنسان بنفسه وبالعالم من حوله، وهناك ضرورة للاهتمام بالبُعد الإنساني للعالم، فيؤكد أنّ المرء قد يحيا حياة روحانية حتى في غياب العقيدة الدينية، وفيها يجد السلام مع غيره أياً كانت عقائدهم وتوجهاتهم.
وهنا فإنّ الروحانية اللّادينية لا تعادي حق الآخرين في التدين، لكنها ترفض فرض نمط التدين على الأفراد عنوة، فالروحانية اللّادينية تسعى لأن تجعل الإنسان وخلاصه في المقام الأول، فلا يتحدد في هذا المقام بالأيديولوجيا الدينية.
في مواجهة التعصب الديني
هذه الكتابات ربما تكون جدلية، لكنها قد توحي إلى التفكر في أزمة معاصرة أخرى، وهي افتقاد بعض المتدينين إلى الروحانية وسمو الأخلاق، بل قد تسيطر على بعض المتدينين (دون تعميم) أنماط شديدة التعصب تصل إلى حدّ افتقاد السلام النفسي والاقتراب من مناطق المرض النفسي في التعامل مع الآخر، فيتحوّل المتدين بعدما فقد سلامه النفسي وروحانيته إلى مجاهد يسعى لدخول الجنة على حساب تحويل حياة المجتمع وأفراده إلى جحيم، بعد أن يحتكر صكوك الرحمة والغفران، ويسعى لفرض منظوره عنوة على أقرانه.
كما يشنّ بعض المتدينين معارك جهادية لفظية أو مُسلحة على بعض القيم الإنسانية التي تسعى للتعايش وقبول الاختلاف والتنوع، ويصفونها بالخلل النفسي، على اعتبار أنهم وحدهم يملكون الفطرة السليمة.
في هذا السياق نجد أن القاسم المشترك بين الروحانية الدينية التصوفية، والروحانية اللّادينية، أنّ كلتيهما تقع تحت نير اتهامات هدم العقيدة الدينية.
هنا تصبح الروحانية ومفهومها عن السلام النفسي والإخاء البشري وضرورة التعايش السلمي، مدخلاً لمناهضة التطرف والتعصب الديني، أيّاً كان نمطه؛ فالروحانية أضحت في تطورها المعاصر مفهوماً أشمل عابراً للأديان والمثيولوجيا المؤسّسة لها.