الذكريات تحرّر فهمي جدعان من الأغلال

الذكريات تحرّر فهمي جدعان من الأغلال

الذكريات تحرّر فهمي جدعان من الأغلال


25/05/2023

إذا قال قائل إنّ فهمي جدعان مفكر عربي راسخ الخطو، واضح البيان، بليغ المقاربة، مختلف حد التفرّد في إنتاج فكرته وكسوها بالمعاني اللغوية العذبة والنحت الفلسفيّ، فإنه لا يغادر منطق الحقيقة. فالدكتور جدعان هو كل ذلك وأزيد.

وتعتريني أحاسيس مضطربة وأن أخطّ هذه الكلمات، لأنّ الموضوع هو أستاذي ومعلمي وصديقي، وهذا يرفع درجة "التحيّز المحب"، لكنه لا يغمط الحقيقة نصيبها.

ولئلا أتورط أكثر في "المدح" فإنني قبل أن أتحدّث عن مذكراته الماتعة المبهرة "طائر التَّم"، سأنوه إلى كتابه الجديد "معنى الأشياء: رسالة في الجوهري من وجودنا المباشر" الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، والذي ستتناوله قراءة فاحصة لاحقة، تعاين أحوالنا الراهنة التي شبّهها المؤلف بـ"مدينة بلا أسوار" تتدافع فيها، بلا رحمة، النظم والأفكار والإرادات والرغائب، وعند بواباتها تتحفّز كتائب الثار والإفناء والكراهية والاغتصاب.

البوح المتدفّق في "طائر التَّم" ينطوي على وصف مدهش للذات والتحديق في المناطق المعتمة التي لم يبُح بها المؤلف من قبل بمثل هذا الاسترسال والكشف والتداعي

وإذا كان الكتاب الجديد، يمتاز بكونه من ألفه إلى يائه نتاج العقل التأملي الوجداني المعرفي، فإنه يتعالق مع سيرة الدكتور فهمي جدعان "طائر التَّم: حكايات جنى الخُطا والأيام"، كانما ثمة خيط رفيع يلظم الكتابين لجهة التعبير الأقصى عن المباوحات الفكرية والذاتية، والقراءة الفلسفية في الذات والوجود.

 البوح المتدفّق في "طائر التَّم" الصادر عن الدار الأهلية للنشر والتوزيع في عمّان، ينطوي على قدرة مدهشة على وصف الذات والتحديق في المناطق المعتمة الثاوية في شخصية جدعان، والتي لم يبُح بها من قبل بمثل هذا الاسترسال والكشف والتداعي.

ولمن يعرف الدكتور جدعان، فهو إجمالاً كائن قليل الكلام فيما خصّ شؤونه الشخصيّة، وأحياناً يبدو متحفّظاً. وقد نشأت بيني بينه علاقة ودودة، لم تنفصم عراها، منذ كنتُ طالباً نهلت من معينه مبادىء الفلسفة في الجامعة الأردنيّة، أواسط ثمانينات القرن الماضي.

وخلال هذه الفترة الممتدّة لم أكن أعرف إلا النزْر اليسير عن تلك الطفولة المعذَّبة التي عاشها في مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيّين في دمشق. كانت فترة مقدودة من الجحيم الذي عبّر عنه فهمي جدعان بلغة متوتّرة مشحونة بأقصى درجات الألم والخوف والغضب.

إذاً، الكتابة، بعد أكثر من ستين عاماً، تُحرّر جدعان من أغلاله، وتُميط اللثام عن ذكريات، لو لم يرصدها ويوثقها في "طائر التَّم"، لظلت حبيسة النسيان والتلاشي. فشكراً لهذه السيرة التي حرّرت الطائر، وعوّضتنا عن العذاب بالعذوبة، وكسرت سجون الصمت.

"طائر التَّم"، كما تقول سيرة جدعان، يتمثّله المخيال الميثولوجيّ في ألوان. ملكي، نبيل، سامٍ، ذو إهاب، وجيه، خطو مهيب، واثقٌ، معجب بنفسه، وفيٌّ لمن يحب، يحتمل الهجرة إلى أماكن بعيدة وعديدة. يقرنه الشاعر الفرنسي بودلير في ديوانه الموسوم "أزهار الشر" بالوضع الوجوديّ المسكون بالذكرى والفقد والتمني والألم.

قال جدعان الكثير في سيرته، وعضّ على كثير لم يقيّض لاسترساله أن يبلغه، فقد كان المحرّرُ غير المنطلق (ببحبوحة) في داخله يوقظ الإشارات الحمراء عند لحظات فيها عريٌ نفسيّ شديد لم يقوَ الكاتب على تحويله إلى مفردات ناطقة ومشخّصة.

وقد كنت سألتُ الدكتور جدعان، في آخر لقاء لنا في عمّان، الصيف الماضي، عن أشياء أخفاها، وأخرى سكت عنها، ولحظات لم يعطِها مداها من البوح، فاعترف أنه فعل ذلك لاعتبارات متّصلة بعدم استطاعته البوح الذي بلا ضفاف، وكأنه يضمر بأنّ ما باح به كان أكثرَ مما حلم هو نفسه، وأشدّ حميميّة مما يتوقّعه قارىء مثلي تعرّف على صورة أخرى وراء شخصيّة الأكاديميّ والمفكّر المرموق، خرّيج السوربون، والذوّاق المشغول بالمنمنمات الذي يسكن في داخله شاعرٌ رقيق وعاشق فذّ للجمال والعدل والحريّة.

وأمّا لغة "طائر التَّم" فهي سياحة روحيّة فريدة الأوصاف، وقد كنتُ بآمر من التلذّذ أعيد قراءة صفحات وصفحات ترنّماً وتأمّلاً ونهلاً لا يتوقف من ينابيع لغة لا تشبه إلا صاحبها في بلاغته وفرادة أسلوبه وفصاحته ونحته الذي بلا إسراف أو تقعّر.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية