الدين ليس بُعداً فردياً فقط

الدين ليس بُعداً فردياً فقط


22/02/2021

قلّما يتمّ الانتباه عندما تُطرح المسألة الدينية في المنطقة العربية، وحين يدعو كثيرون (في سياق الحثّ على الإصلاح الديني)، إلى حصر الدين في الجانب الفردي استناداً إلى التجربة الغربية، بأنّ هذه الأخيرة تعرضتْ في العقود الأخيرة إلى مراجعات وسجالات تتعلق بموقع الدين في المجال العمومي داخل المجتمعات الغربية، وأن هذا السجال يكاد يبلغ ذروته مع حالات التطرف والإرهاب التي مسّت هذه المجتمعات، والتي كان يقف، للأسف، خلفَ أكثرِها أفرادٌ مسلمون.

التواصلية تُقدِّمُ نسخة من التنوير العقلاني غير الإقصائي، وهي تعني تكييفاً للدين

الموضوع الديني حاضرٌ منذ فترة في الحملات والمناظرات الانتخابية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، ليس من زاوية الحديث عن الإرهاب والتطرف الإسلامي فقط؛ بل كذلك من زاوية إعلان المرشحين والناخبين عن مدى التزامهم بما يمليه عليهم دينهم ومعتقدهم حيال المسائل المجتمعية الرئيسية، مثل؛ الإجهاض والزواج المثلي وسوى ذلك، وهو ما وجدناه، مثالاً لا حصراً، في العام الماضي في انتخابات الرئاسة في فرنسا، التي لطالما مثّلت نسخة متشددة من التجربة العلمانية. فقد تابعنا وقت الانتخابات الرئاسية تلك مرشح اليمين "فرانسوا فيون" يُقحم انتماءه الكاثوليكي والكنيسة الكاثوليكية في المعترك الانتخابي والسياسي. وبرغم ما وُوجِه به ذلك من انتقادات من شخصيات عامة من أمثال رئيس الحكومة السابق، إيمانويل فالس، فإنّ حديث فيون مثّل عينة لما يشهده السجال حول الدين من تحولات؛ لها اتصال بأسئلة تتعلق، أولاً بانفجار الهويات الدينية وثانياً بإشكالات العولمة، وثالثاً بما أفرزته النيوليبرالية من تصدعات في بنى اجتماعية واقتصادية كان من المفترض أنها استغنت بالحداثة عن التوسل بالمقولات الدينية في الإجابة عن أسئلة الذات والآخر والمصير والنظرة إلى العالم ومشكلاته، وهي أسئلة باتتْ، رابعاً، أكثر إلحاحاً مع تنامي تأثير الوجود الإسلامي في المجتمعات الغربية من جانب، وتصاعد قصص التطرف والإرهاب في تلك المجتمعات، التي نفذها، للأسف، مسلمون، من جانب آخر.

الرافد الإنساني المتنوع والحرّ والعقلاني والأخلاقي يُعيد تفسير النصوص الدينية؛ عبر تغيير الفهم الذاتي للنصوص

هذا التنبيه مهمٌ لدى البحث عن إصلاح الإسلام، فلا تُلامِسُ العقلانيةَ والحكمةَ أيُّ دعوةٍ لإقصاء الدين من المجال العمومي؛ ذلك أنّ "سِحر العالم" لم يزُلْ، كما تنبّأ ماكس فيبر، و"الخروج من الدين" في التجربة الأوروبية، بحسب تعبير مارسيل غوشيه، يصطدم اليوم بتراجع نموذج الدولة الوطنية وانخفاض قدراتها الإدماجية. ولذا يبدو ضرورياً إعادة الاعتبار إلى أفكار يورجن هابرماس في تنظيره للتواصل والفضاء العمومي والحداثة والمواطنة، وهي أفكارٌ تضع الدين في صُلب القيم العمومية المدنية، وفي صلب المجال العام. وهذا الفهم مختلفٌ عن وضع حاجزٍ طويلٍ بين الدين والشأن العام، أو حصر الدين في البعد الفردي فقط. ثمّ إن هذا الفهم يستجيب، قبل كل شيء، لحاجات مجتمعاتنا العربية والإسلامية وتطلعاتها وأشواقها، من دون تعسُّفٍ وجورٍ على الشروط الذاتية والموضوعية، التي تُظلِلُ عيشَنا في هذه البقعة من العالم.

بمعنى آخر، فإنّ التواصلية تُقدِّمُ نسخة من التنوير العقلاني غير الإقصائي، وهي تعني تكييفاً للدين؛ لأن حضوره في المجال العمومي يتطلب عدم التفريط بحرية التعبير والمعتقد والضمير، وتعزيز مركزية الإنسان وحقوقه وإرادته المستقلة. أيْ إنّ شروط اللعبة تقتضي عدم إقصاء الدين من المجال العام، وعدم حصره في المجال الفردي مقابل قبوله بما أنجزته الحداثة من حقوق وحريات وقوانين مدنية، ستكون المدخل لإنتاج لاهوت جديد، وإعادة تشكيل مضامين الإيمان وأنماط التدين، والتعويل على أنّ الرافد الإنساني المتنوع والحرّ والعقلاني والأخلاقي يُعيد تفسير النصوص الدينية؛ عبر تغيير الفهم الذاتي للنصوص؛ وتوسيع خيارات التأويل الفردي؛ وعقلنة المعنى والمقدس، في شكلٍ يكفل أن تنداح مضامين الدين في العقل العمومي، لتسهم في إثراء النقاش العام، ويسهم هذا النقاش في إثراء تلك المضامين، من دون وصاية، أو مصادرة لمكتسبات الإنسان من حقوق وحريات، وهو ما سيعزز التفاعل التواصلي؛ حين يلتقي الدين والحداثة على قيم العدل والرحمة والصدق والمساواة، وحين يلتقيان على أن "الإنسان أولاً": حقوقه وحرياته وكرامته وإرادته المستقلة... وأنه "لا ضررَ ولا ضِرار".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية