الخلق الفني بين الزمن السرمدي وإعادة إنتاج المأساة

الخلق الفني بين الزمن السرمدي وإعادة إنتاج المأساة

الخلق الفني بين الزمن السرمدي وإعادة إنتاج المأساة


22/04/2025

الفن، بوصفه عالمًا متجاوزًا للذات، يُخاطب أرقى جزء في الوجود الإنساني، يخترق الإنسان كسرعة الشعور وبارقة الخاطرة وحضور الدمعة، هو واحد من المُغذيات الروحية العظيمة للروح الإنسانية. فكلما ترقيت وعيًا، كانت حاجتك لقطعة موسيقى أو لوحة فنية أو بيت من الشعر أكثر إلحاحًا، وتأثيرهم فيك أعمق. إنّ الفن طاقة شفاء كُبرى، وهو واحد من ضمادات البشرية وحواضنها العظيمة. ويحتاج الإنسان للطعام ليعيش، ويحتاج للفن ليحيا.

جاء الفن ليخلد صانعيه، وليجعل لدراويشه حياة أعمق، يمتد "الخلق الفني" في اتجاهين على طول الحياة وعُمقها، فالزمن سرمدي في الرسوم البدائية التي وصلتنا من الكهوف عن إنسان ما قبل التاريخ وعبرت بروحه فوق العصور، واخترقت روح إنسان آخر يقف مشدوهًا أمامها، وتتركه أمام تجليات وفيوض اللحظة، فجمال الفن في كونه يختلط بكل روح بشكل مغاير، ويغمز كل روح بطريقته، ويراه كل إنسان بعين ذاته، فيُكسبه ويحيل إليه من المعاني أكثر ممّا أراد صاحبه، وكأننا في كل عمل فنّي نكون جزءًا من إبداعه.

تكمن عظمة الفن في أنّه يُعيد إنتاج جراحنا ومآسينا بطريقة أكثر حكمة، بطريقة تحمل معنى، فجزء من الأسى الإنساني يعود إلى كون الحكمة من وطأة الأقدار محتجبة، والغائية منها مُبهمة، فيهدي لنا الفن "المعنى"، وهو ما يهوّن لدى الإنسان أثقاله، ففي معظم الإرث الإنساني من الفن، إلا بعض الاستثناءات، يُعيد الفن إلى العالم خيريته، وينتج المكابدات الإنسانية على قسوتها بطريقة تتسم بالجمال، فيورث المساكين الأرض، ويحتفي بجراحهم، ويقبل أقدامهم المُدماة على طريق البشرية الطويل. وحتى لو لم يهدنا المعنى، فإنّ الانسجام في الأعمال الفنية يخلق في الإنسان التوازن الذي تحتاجه روحه المتألمة بمآلات الواقع الصلب.

التخييل هل هو محض ملهاة؟

فهل صحيح أنَّ الفن في أعمق أغراضه ليس إلّا ملهاة بشرية؟ بهذا المعنى الذي يشوه الواقع ولا يقدّم صورًا بحلول مجردة، وإنّما هو ليس سوى تخييل يمنح الإنسان عزاءات غير وظيفية، إنّ هذا المعنى قصده أفلاطون في جمهوريته، إذ كانت هذه الجمهورية تتسم بالعقل وتقدّس الحقيقة، فنبذت الشعر واعتبرته زيفًا يُضيع وقت الإنسان ويشتت روحه دون أن يكون قد قدّم حلولًا فاعلة على نحو ما تفعل العلوم والفلسفة...، فهل الفن حقًا ملهاة دون أن تكون له فائدة عمليّة؟

وربما من هنا تكون المدرسة الاستاطيقية ومدرسة الفن من أجل الفن قد اتخذت رافدهما، إذ تبنتا منظورًا مغايرًا تمامًا للفن، ففي الوقت الذي كان يُرى أنّ للفن رسالة اجتماعية وأخلاقية وإنسانية ونفسية، رأت مدرسة الفن من أجل الفن، أنّه غرض في ذاته، وأنّه لا يحتاج أن يكون مدعومًا بأيّ مهمة تغيير أو تبديل، ويكفيه أنّه حركة جمالية دون أيّ انتظار لنفعية، الغريب أنّه حتى من هذا المنظور الذي يحدّ من قدرة الفن، نستطيع أن نرى بقليل من التدقيق أنّ فعل الجمال نفسه يُسهم في البناء الأخلاقي والنفسي للمجتمع والفرد، فالقطعة الفنية التي تتلقاها الروح فتهذبها وتُرهفها وتترك فيها انسجامّا فتخرج هذه الروح للعالم بوجه جديد بما تلقته من تطهير ليست إلا أثر الفن العميق في الروح وأصديته.

وكما قال هيدجر: إنّ الفن ليس نشاطًا وظيفيًا يتوقف عليه وجود الإنسان، لكن مع هذا يمثل جزءًا أساسيًا من كينونته. لقد عرف الإنسان الفن ومارسه كنشاط قبل معرفته الزراعة وتكوين المجتمعات، مارسه بعيدًا عن أيّ طقوس للصيد وللصلاة وبجانبها، لقد كانت حاجة الإنسان للفن حاجة لرفقة روحية، نشاطًا يحمل عزاء وتطهيرًا وسلوى وفرحًا وصلاةً وشغفًا.

فهل نستطيع بعد كل هذا أن نرى الفن من أجل الفن؟

بالعكس إنَّ الفن منبّه عظيم وفاعل عظيم وقادر عظيم، غير أنّه قوة ناعمة لا تؤذي ولا تكسر ولا تعنف، يُغيّر الداخل الإنساني، ولا يمكن أن يعود الإنسان الذي دخل عوالم الفن ودار في مدارتها كما كان قبلها. وللمفارقة فإنّ أفلاطون الذي رفض الفن في جمهوريته، لم تكن محادثاته في الكتاب ذاته لتصمد كل هذا الزمن وتصل إلينا بهذا الإبداع، لولا أنّ أفلاطون كتبها بنَفَس أدبي وفنّي حساس، إذ كان كاتب مسرح قبل أن يتفلسف.

الفن أداة لحفظ التاريخ

 الفن عامل مهم في حفظ التاريخ الإنساني، فلولا هذه الرسومات والمحفوظات البدائية، سواء تلك التي وصلتنا عن الصلوات البدائية أو الاستعداد للصيد أو درء مخاطر البيئة، أو حتى تلك التي وصلتنا خالية من القصد، إذ كان يقصد أصحابها الخلق الفني ذاته، كلها بالأخير مثلت سجلًا إنسانيًا في وقت لم تكن فيه الكاميرات موجودة، وتركت لنا قصص الإنسان الأولى، قصصًا لم تكن لتصل إلينا لولا هذا الموجود الإنساني الذي يريد أن يبحث عن أصوله ويعمّق وجوده من ناحية، ومن ناحية أخرى يتمتع بحسٍّ عالٍ في التعاطي مع المطلق، وكما أسهم الفن في نقل التاريخ الإنساني، أسهم كذلك في حفظ تاريخ الحضارات، فحضارة المايا، والحضارتان المصرية والرومانية، لم تكن لتصل إلينا لولا فنّها، فجميع الحضارات التي اندثرت تاريخيًا كانت علاقتها مع الفن ضعيفة، فلم يستطيعوا أن يمرروا خلودهم لعصور لاحقة، وكما قال بوريس هوبكا: "الفن هو توقيع الحضارة"، بهذه الطريقة التي يكون فيها الفن سجلًا وشاهدًا على عظمة حضارة ما، وبالطريقة التي تريد بها حضارة ما أن تُخلّد نفسها. 

في دوستوبيا جورج أرويل (1984) نرى كيف كانت محاربة الفنون آليّة من آليات القمع في دولة الأخ الأكبر، فقد أعيد إنتاج الفن القديم بما يتماشى مع الخط الجديد للدولة، وتُركت مهمة إنتاج الفن والأدب للآلات بما يخدم إيديولوجية الحزب ويقتل الفن كفعل إنساني، كما حاربوا الإبداع الفردي، فإنسان يجلس بمفرده، يمارس الإبداع ويتذوق الجمال وينتجه، كان هذا في نظر الديستوبيا فعلًا تمرديًا خطيرًا، والعجيب أنّه حينما أرادت شرطة الفكر أن تقبض على أولئك الذين تلمح فيهم، ولو من بعيد، نزعة للاختلاف والشذوذ عن القوالب اللاإنسانية التي صكت بها المواطنين، جعلت الفن مصيدتهم، فلم يكن محل الخردة الذي يديره السيد المهذب والمسن واللطيف تشارينغتون إلا شَرَكا لمن يحنون إلى الماضي ويبحثون عن الجمال، ولم تكن خردته غير أثر متهالك للفن قبل حكم الحزب، وكان حنين سميث بطل الرواية وتطلعه للكنوز البالية من تحف فنية ودفاتر قديمة وساعات مكسورة، لم يكن إلّا تعاطيًا محرّمًا للجمال، وتطلعًا للحرّية، وفعلًا متمردًا، فقبض على سميث، فقد كان السيد تشارينغتون  عضوًا في شرطة الفكر. وعلى الرغم من أنّها رواية فقد وصفت بدقة مدهشة العلاقة بين الأنظمة الشمولية والفن، وكيف سخّرت تلك الأنظمة الفن لخدمة إيديولوجياتها، وكانت في كل محاولة لذلك تطعن الفن في جوهره الخالص القائم على الحرية، ولنا في النظام الشيوعي في روسيا والصين والنازي في ألمانيا أوضح مثال، حتى في مصر كانت الأغاني التي شدا بها كبار الفنانين بأسماء الزعماء لا تقارن بتلك التي شدوا فيها باسم الوطن والشعب، ولم يعد ينظر إلى الأعمال الفنية -بعد أن أخذت بُعدها الزمني- التي اقترنت بالسياسة إلا من باب التاريخ، بينما الأعمال الفنية التي اقترنت بالمشتركات الإنسانية والمطلق أخذت طابع الديمومة والاعتراف.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية