أولاد حارتنا... سيرة الرواية المحرمة

أولاد حارتنا... سيرة الرواية المحرمة

أولاد حارتنا... سيرة الرواية المحرمة


14/04/2025

كعادته المنضبطة، خرج نجيب محفوظ من منزله في الخامسة والنصف مساء 14 تشرين الأول (أكتوبر)، متوجهاً إلى ندوته الأسبوعية في كازينو قصر النيل، في تلك اللحظة، وعلى بعد خطوات من منزل محفوظ، أقدم محمد ناجي محمد مصطفى، فنّي إصلاح أجهزة كهربائية، وعضو الجناح المسلح للجماعة الإسلامية، على ذبح محفوظ، بمعاونة آخرين؛ ردًّا على رواية أولاد حارتنا التي اعتبروها رواية كافرة، جسّدت الله والأنبياء.

تحقيقات نيابة أمن الدولة العليا أشارت إلى أنّ منفذي الجريمة لم يقرؤوا لمحفوظ يوماً، وبعضهم يجهل القراءة والكتابة من الأساس، غير أنّ فتوى من أميرهم بقتل محفوظ كانت كفيلة باعتبار المسألة أمراً مقدّساً يجب تنفيذه.

قبل ذلك التاريخ بأكثر من (30) عامًا، نشرت جريدة (الأهرام) الفصل الأوّل من رواية أولاد حارتنا، وتتابع النشر وسط مخاوف من محتوى الرواية وردود الأفعال عليها؛ فالرواية الرمزية التي كتبها محفوظ من ضمن تفسيراتها التي تداولها البعض أنّها جسّدت الله في شخص الجبلاوي، وجسّدت الأنبياء أيضًا، ورغم نفي محفوظ الدائم لذلك التفسير، إلا أنّه كان الأكثر انتشاراً، ممّا دفع المؤسسة الدينية في القاهرة إلى طلب منع نشر الرواية في مصر.

سيرة الرواية المحرمة

بدأت الأزمة كما أشار الكاتب الصحفي محمد شعير في كتابه "أولاد حارتنا ـ سيرة الرواية المحرمة"، الصادر عن دار (العين)، بعد أن نشرت الصفحة الأدبية بجريدة الجمهورية خبرًا يلفت النظر إلى أنّ الرواية المسلسلة التي تنشرها (الأهرام) فيها تعريض بالأنبياء، ويحكي نجيب عن تلك الواقعة، كما أوردها شعير في كتابه: "وبعد هذا الخبر المثير، بدأ البعض، ومن بينهم أدباء للأسف، في إرسال عرائض وشكاوى يطالبون فيها بوقف نشر الرواية وتقديمها إلى المحاكمة، وبدأ هؤلاء يحرّضون الأزهر ضدي، على أساس أنّ الرواية تتضمن كفراً صريحاً، وأنّ الشخصيات الموجودة في الرواية ترمز إلى الأنبياء".

 الكاتب الصحفي: محمد شعير

الرواية السابقة ذكرها محفوظ، غير أنّ شعير لفت إلى أنّ أول هجوم معلن على الرواية كان على صفحات مجلة (المصور)، في رسالة أرسلها قارئ يُدعى محمد أمين إلى الشاعر صالح جودت، محرر باب أدب وفن في 18 كانون الأول (ديسمبر) 1959، حيث قال: "جاء محفوظ ليتحدى معتقدات راسخة، ولهذا يتعذر على كائن من كان، حتى ولو محفوظ نفسه، أن يقدّمها بمجرد كتابة قصة. التستر وراء الرموز أضعف قضية نجيب محفوظ في مجتمع يجلّ الدين بطبيعته".

لجنة الدفاع عن الإسلام

في تلك الفترة أيضًا حضر الكاتب والروائي سليمان فياض اجتماعًا لما سُمّي بلجنة "الدفاع عن الإسلام"، وهي لجنة ابتكرها الشيخان سيد سابق ومحمد الغزالي بهدف "رصد افتراءات المستشرقين على الإسلام والردّ عليها"، وكان محور الدفاع عن الإسلام في تلك المرة مخصصًا لمناقشة كيفية التصدي لرواية أولاد حارتنا"، وكان فياض كاتب الجلسة؛ "عندما بدأ الكلام عن أولاد حارتنا هاجم الشيخ الغزالي الرواية هجومًا شديدًا، وقال إنّها إلحاد وعبث بتاريخ الديانات، فارتعش القلم في يدي، فنظر إليّ الغزالي، وكان يعرف أنني أكتب القصة، وأمرني ألّا أكتب شيًئا من مناقشات اللجنة، بل هو من سيقوم بالكتابة".

التحقيقات أشارت إلى أنّ منفذي الجريمة لم يقرؤوا لمحفوظ يوماً، وبعضهم يجهل القراءة والكتابة

جاءت أولاد حارتنا بعد توقف محفوظ لأعوام عن الكتابة، إثر قيام ثورة تموز (يوليو) 1952، ورأى أنّ العودة يجب أن تكون برواية مختلفة شكلًا ومضموًنا عمّا قدّمه سابقاً، غير أنّه لم يتوقع أن ينتهي به الأمر مذبوحًا بمطواة أمام منزله، وأن يضطر في النهاية لنشرها خارج مصر، بعد عزوف كل مسؤول عن نصرة الرواية والدفع بها إلى المطبعة، فالحادث جلل، ولن يأمن أحدهم ردّ فعل النزعة الدينية لدى نفوس الناس.

مصادرة الرواية، وإن كانت ضمنية، دون أيّ ورقة رسمية تؤكد المنع، أضاف إليها العديد من الألغاز، وجعلها مشبعة بالحكايات المتداولة بين الجميع عنها، المسألة التي استغلها محمد شعير في كتابه، وبدأ رحلة امتدت لأعوام بحثًا عن كواليس أولاد حارتنا، وأن يسرد بين دفتي كتاب سيرة الرواية المحرمة.

غياب دور المثقف

في المستشفى طلب محفوظ من زوجته إحضار (3) نسخ من أعماله، ووقّعها هدية إلى من حاولوا قتله، رأى محفوظ في إقدام هؤلاء على مشاركتهم في العمل الإرهابي نتيجة لمقدمات شارك فيها المثقف ذاته، فغياب المثقف عن الناس وعدم قدرته على الوصول إليهم دفع بهم في النهاية للانضمام إلى تنظيم إرهابي.

الكاتب والأديب المصري-أول مصري وعربي حائز على جائزة نوبل في الأدب-: نجيب محفوظ

بعد خروجه من المستشفى لم يسلم محفوظ من تبعات الرواية المحرّمة، فبعد أسابيع قليلة على خروجه، وقبل أن يتعافى تمامًا، كانت هناك مفاجأة في انتظاره، إذ وجد نفسه متهمًا ومطلوبًا في القضية رقم (1787) لعام 1959 جنايات المنصورة، وكان أحد المحامين، ويُدعى السيد عبد الرحمن، من المنصورة قد أقام دعوى ضد محفوظ يتهمه فيها بازدراء الأديان، وإضافة اسم جديد إلى أسماء الله الحسنى، وهو "الجبلاوي"، وهي تُهم تستوجب الحبس والغرامة، والتفريق بينه وبين زوجته.

اعتمد المحامي في دعواه القضائية على ما نشرته صحيفة (الأخبار) بأنّ محفوظ عندما أفاق من التخدير سأل زوجته عن موعد إجراء الجراحة، فقالت له: لقد تم إجراء الجراحة. فضحك محفوظ وقال: "إذن الجبلاوي راضٍ عني". وحسب تحقيقات النيابة لم يقرأ المحامي "أولاد حارتنا"، مثله مثل من حاول اغتيال محفوظ، بل قال في التحقيق:"حاشا لله أن أقرأها لما تنطوي عليه من خروج".

وبعد (5) جلسات على امتداد الفترة من 23 أيار (مايو) حتى 30 تشرين الثاني (نوفمبر) 1995، قضت المحكمة بعدم قبول الدعوى لانتفاء شرطي: المصلحة والصفة.

استطاع شعير أن يتتبع مسار الرواية في جميع المطبوعات الصحفية الصادرة في تلك الفترة، وأن يجمع كل قصاصة وورقة ذكر فيها أيّ كلمة عن الرواية، وردود الفعل عليها، واستطاع أن يضفر تلك المعلومات في نسق أشبه بالرسم الهندسي الدقيق، يدفع القارئ لتتبع مسار الرواية المحرمة دون ملل، وأن يظل في شغف مستمر لمعرفة تفاصيل الحكاية، الحكاية التي أرّقت مضاجع رجال الدين، واعتبروها خطرًا على الإسلام، ونصبوا أنفسهم خلفاء الله في أرضه للدفاع عن دينه. 

وتظل صورة الإرهابي وهو يذبح محفوظ بسبب رواية عالقة في الأذهان، خصوصًا وهو يردد الشهادتين ويهتف "الله أكبر" وقت الذبح، ويقول وكيل نيابة أمن الدولة العليا في تلك الفترة المستشار أشرف العشماوي: إنّ المتهم نطق بالشهادتين وهتف "الله أكبر" حتى يلقن محفوظ الشهادة ويعيده عن كفره. 

غير أنّ القدر كان له رأي آخر، فقد خرج محفوظ من الحادثة بسلام، واستمر في كتاباته حتى وافته المنية مساء 29 آب (أغسطس) 2006، لكنّ وفاته لم تمنع الجدل حول الرواية الأكثر إثارة للتساؤلات في تاريخ محفوظ، رغم صدور طبعتها المصرية بعد قرابة (45) عامًا من المنع والمصادرة داخل القاهرة.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية