الحرب الأمريكية الصينية على الذكاء الاصطناعي: من ينتصر على الآخر؟

الحرب الأمريكية الصينية على الذكاء الاصطناعي: من ينتصر على الآخر؟

الحرب الأمريكية الصينية على الذكاء الاصطناعي: من ينتصر على الآخر؟


26/03/2023

لا يبدو العنوان اللافت الذي يُميز هذا الكتاب غريباً مقارنة مع مضامين العمل، ما دام يتحدث عن الذكاء الاصطناعي باعتباره أكبر طفرة في التاريخ، والحال أنّ مضامين العمل والموزعة إجمالاً على مقدمة و(9) فصول، تصب في أحقية هذا الخيار؛ لأنّ ما تعج به هذه الطفرة العلمية تبقى أقرب إلى صحة الحديث عن أكبر طفرة في التاريخ.

نحن في ضيافة كتاب "الذكاء الاصطناعي: أكبر طفرة في التاريخ"، للباحث الأمريكي من أصل صيني (كاي فو لي)، وهو عضو مجلس أمناء جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي، مؤسس شركة (سينوفيشن فينتشرز) الصينية والرئيس السابق لشركة غوغل في الصين، كما صدر له عمل مرجعي حول الموضوع نفسه بعنوان: "الذكاء الاصطناعي في عام 2041: (10) رؤىً لمستقبلنا".

جدير بالذكر أنّ عنوان النسخة الإنجليزية يتحدث عن "قوى الذكاء الاصطناعي العظمى: الصين، ووادي السيليكون، والنظام العالمي الجديد"، ويقصد تحديداً الصين وأمريكا، بينما نقرأ في عنوان النسخة الفرنسية يتحدث عن "الذكاء الاصطناعي: أكبر طفرة في التاريخ"، مع أنّ الأمر يتعلق بالعمل نفسه، والاختلاف جليٌّ بين العنوانين، لكنّ عناوين الفصول الـ (9) للكتاب بقيت كما هي، وجاءت كالآتي: الصين ولحظة سبوتنيك، في ساحة حلبة المقلدين، الإنترنت الصيني: مرحباً بكم في عالم جديد، الحكي الأمريكي ـ الصيني، الموجات الـ (4) للذكاء الاصطناعي، اليوتوبيات والمدن الفاسدة والأزمة المعمقة، دروس من تجربة السرطان، الذكاء الاصطناعي، والإنسان: نحو تعايش ناجح، التاريخ العالمي للذكاء الاصطناعي.

تتضمن مقدمة الكتاب الخطوط العامة لمضامين العمل، حتى إنّ بعض هذه المضامين جاءت في خاتمة الكتاب أيضاً، وفي مقدمتها التذكير بأهمية الرهان على تحمل مسؤوليتنا الجماعية من أجل استخدام الذكاء الاصطناعي بما يخدم البشرية، عبر خلق مناصب شغل، وتطوير الطب، وتثوير الثورة الصناعية، وتعميم الولوج إلى تعليم نوعي في أفق خدمة نمط الحياة اليومي.

غلاف الكتاب (بالإنجليزية)

يبقى الخيط الناظم للعمل ما يشبه مقارنة بين أداء أهم القوى العالمية بخصوص تدبير وتوظيف الذكاء الاصطناعي، مع تركيز كبير وطبيعي على مقارنة الأداء الصيني بنظيره الأمريكي، ومن ذلك صرف بكين مبالغ فلكية من أجل منافسة واشنطن وتجاوزها في المجال، بما يُفسر تزايد عدد الطلاب الدارسين لهذا المجال، وبما يُفسر أيضاً أنّ الصين استطاعت في عام 2017 الهيمنة على نحو 48% من إجمالي تمويل الذكاء الاصطناعي العالمي.

بخصوص مضامين الفصل الخامس والمخصص لعرض أهم الموجات أو التطورات التي مرّ منها الذكاء الاصطناعي فقد أحصى منها المؤلف (4)؛ وهي: الذكاء الاصطناعي التقليدي، الذكاء الاصطناعي المهني، الذكاء الاصطناعي الاستشرافي، وأخيراً الذكاء الاصطناعي الذاتي، وقد تضمن الفصل مقارنات بين النموذجين الأمريكي والصيني بخصوص مؤشرات كل جيل من الأجيال الـ (4)، فعلى سبيل المثال، تبدو الصين متقدمة في الذكاء الاصطناعي الاستشرافي، بينما الأمر مختلف ولم يُحسم فيه بعد بخصوص الذكاء الاصطناعي الذاتي بسبب وجود عوائق سياسية وتقنية تحول دون التوصل إلى خلاصة أو نتيجة حاسمة بخصوص تفوق هذا الطرف على الآخر.
 

يذكّرنا المؤلف بأنّه بعد (3) أشهر من فوز دونالد ترامب في رئاسيات 2017، سوف يصدر أمر رئاسي يقضي بتقليص النفقات الخاصة بدعم المشاريع الأمريكية الخاصة بالذكاء الاصطناعي، بخلاف ما جرى مع الصين في الحقبة ذاتها تقريباً

نقد ما اصطلح عليهم المؤلف "أنبياء الذكاء الاصطناعي" هو محور الفصل السادس من الكتاب، ويقصد بهؤلاء فئة من الخبراء تؤمن بأنّ هذه الفورة أو الطفرة الرقمية التي تفرزها تقنيات الذكاء الاصطناعي يمكن أن تسرع من وتيرة التنمية، وتدخل العالم في سياق محموم، لأنّ الواقع الراهن على الخصوص يقوض هذا الخطاب الرقمي التبشيري، بل لا توجد أدلة ملموسة تغذي هذا الخطاب، ومن المحددات الموضوعية التي تخول للمؤلف التوصل إلى ذلك، أنّه كان منذ 1982 أحد أهم الخبراء العالميين في تقنيات التعرف على الصوت، وكان سبقه سبباً وراء التحاقه للعمل في شركة آبل، إيماناً منه ومن إدارة الشركة أيضاً أنّ هذا التفوق العلمي يؤسس لانقلاب علمي على الصعيد العالمي، لكن كانت (5) أعوام بعد التحاق المؤلف بالشركة لكي يتأكد فشل هذا التوقع، مضيفاً أنّه على الأرجح سوف نحتاج إلى عقود حتى تتحقق هذه الطفرة العلمية المأمولة والتي يُبشر بها أنبياء الذكاء الاصطناعي.

صحيح أنّ هذه الفورة الرقمية سوف تُدخلنا في أزمات جديدة وغير مسبوقة، كما أنّه لا علاقة لها بتلك السيناريوهات القيامية التي تروجها أفلام هوليود، لكن سوف يكون لها تبعات على الوضعية الإنسانية وفي مقدمتها توليد أزمات البطالة وتكريس التفاوت الطبقي، بل يمكن أن تهدد الحضارة الإنسانية لاعتبارات عدة، أقلها أنّ الأمر لن يقتصر على تقزيم فرص الشغل، بل سوف تكرس الفوارق الاقتصادية على الصعيد العالمي، لأنّ الروبوتات الذكية سوف تهدد شركات ومعامل دول العالم الثالث بالإغلاق الشامل، بمعنى آخر، النموذج الاقتصادي القائم على التصدير بأقل تكلفة، والذي كان يُميز اقتصادات دول جنوب شرق آسيا بل كان أحد نقاط قوة هذا النموذج بما جعله أحد أسباب الانعتاق من الفقر، أصبح عملياً مهدداً بما ستوفره لنا تقنيات الذكاء الاصطناعي على المدى المتوسط،، وبالنتيجة إذا لم نتحكم في الذكاء الاصطناعي، فإنّنا نتجه نحو صب الزيت على النار بخصوص النسيج المجتمعي والاقتصادي في العالم بأسره.

غلاف الكتاب (بالفرنسية)

ابتداءً من الفصل السابع، نطرق باب التأمل وطرح الأسئلة المؤرقة مع عرض بعض المقترحات انطلاقاً من خبرة المؤلف، باعتباره أحد أهم المراجع العالمية في مجال الذكاء الاصطناعي، بل يُعتبر أحد رواد هذا المجال منذ (3) عقود، في حقبة لم يكن فيها العالم يتحدث أساساً عن الذكاء الاصطناعي.

تفوق المؤلف كثيراً في توظيف حدث شخصي يهمه أولاً وأخيراً، لكنّ تبعات الحدث نفسه كانت سبباً لكي يُعيد النظر في تعامله مع أسئلة العلم والتقنية والاكتشافات العلمية، وهذا ما تضمنه الفصل السابع الذي كان أشبه بسيرة ذاتية للمؤلف، ومنها أزمة الإصابة بداء السرطان قبل طرق باب العلاج والاستشفاء، وقد كانت الأزمة مناسبة لكي يُعيد اكتشاف نفسه على هامش المرور من خلوة في معبد بوذي ونقاشات مع أحد الحكماء صدمه يوماً بسؤال صريح: ما هدفك في الحياة؟ فأجاب بأنّه يحلم بأن يصبح مؤثراً على الصعيد العالمي، وأن يُساهم في تغيير العالم.

صمَتَ الحكيم البوذي ورفَضَ الاعتراض على الجواب حينها، وقد اتضح لاحقاً للمؤلف أنّ صمت الحكيم وعدم الرد أو تقييم الجواب كان جواباً بليغاً، تفطن إليه (كاي فو لي)، وساهم في إعادة حساباته الشخصية بما فيها نزعة التمركز على الذات.

تفوق المؤلف كثيراً في توظيف حدث شخصي يهمه أولاً وأخيراً، لكنّ تبعات الحدث نفسه كانت سبباً لكي يُعيد النظر في تعامله مع أسئلة العلم والتقنية والاكتشافات العلمية

بالنسبة إلى غير المتخصصين في الموضوع، يحتاج الذكاء الاصطناعي حسب المؤلف إلى (4) شروط حتى يتحقق على أرض الواقع: مادة ضخمة من البيانات، وخوارزميات قوية، ووجود خبراء ورواد أعمال مؤهلون لتطوير الاكتشافات، وهدف محدد في التطبيق، وإذا كان أحد هذه المحددات ناقصاً، فإنّ البنيان ينهار. وممّا يُميز حقبة الذكاء الاصطناعي أنّها تنتقل بنا من حقبة الكفاءات إلى حقبة البيانات، مضيفاً أنّه مع وتيرة أداء العولمة ومنها العولمة الرقمية، فإنّ هذه الأخيرة لن تترك أحداً وشأنه. وإن كان السيناريو الأرجح حسب (كاي فو لي) لن يخرج في الغالب عن اتجاهين: اقتصاد حيث المنتصر لن يترك المنافس واقفاً، وتركيز للثورة بشكل غير مسبوق بين أيدي حفنة من المؤسسات، وخاصة المؤسسات الأمريكية والصينية، ممّا ينتج عنه اختلال النظام العالمي، وأزمات سياسية رهيبة، وتعميم البطالة والفوارق الصارخة.

لا ينطلق المؤلف من أرضية نظرية مجردة وهو يستعرض تعامل صناع القرار في واشنطن وبكين مع ثورة الذكاء الاصطناعي، وإنّما يستعرض أهم المبادرات الرسمية، وأداء أهم المؤسسات والمشاريع في أمريكا والصين على هامش التدقيق المفصل في الفوارق بين أداء القوتين، مع حضور (7) شركات عظمى في هذا السياق: غوغل وفيسبوك وأمازون ومايكروسوفت من أمريكا، مقابل علي بابا وبايدو وطيسنت من الصين، والقاسم المشترك بين هذه الشركات الـ (7) أنّها أهم شركات مهيمنة على مجال الذكاء الاصطناعي على الصعيد العالمي.

يُذكّرنا المؤلف بأنّه بعد (3) أشهر من فوز دونالد ترامب في رئاسيات 2017، سوف يصدر أمر رئاسي يقضي بتقليص النفقات الخاصة بدعم المشاريع الأمريكية الخاصة بالذكاء الاصطناعي، بخلاف ما جرى مع الصين في الحقبة ذاتها تقريباً، حيث صدر تقرير عن مجلس الدولة بعنوان "برنامج التنمية للجيل الجديد للذكاء الاصطناعي" في عام 2017، وتتقاطع مضامينه مع التوصيات التي جاءت في عهد باراك أوباما والتي تعرضت للتقويض لاحقاً مع قرارات ترامب، ومن أهداف المشروع الصيني، تحقيق قفزة نوعية في غضون 2025 بحيث تصبح منافسة مباشرة لواشنطن، وأن تصبح في الريادة في غضون 2030.

عالم الذكاء الاصطناعي يتميز بسرعة التقدم والإنجاز، وهذا محفز آخر على النشر الفوري لنتائج الأبحاث

ما يُميز النموذج الصيني الخاص أنّه يهم أعلى سلطة في البلد، ولكنّ التفعيل يهم حتى الأقاليم والجهات، من خلال إشراف المسؤولين أو الحكام في المدن والقوى، ممّا يساهم في خلق حالة منافسة بين مختلف هذه الجهات. على سبيل المثال، لم تكن الصين تضم أيّ قطار فائق السرعة في عام 2007، ولكن بعد (10) أعوام فقط، أصبح عدد الكيلومترات الخاصة بهذه القطارات يعادل العدد نفسه في باقي دول العالم، أو ارتفاع عدد مستخدمي الهواتف الذكية بين عام 2009 وعام 2013 من (233) مليون شخص إلى (500) مليون شخص، ضمن نماذج أمثلة أخرى.

ويورد المؤلف لطيفة دالة، مفادها أنّه عندما تسأل عن تقييم تأخر الصين عن الأمريكيين في الذكاء الاصطناعي، فإنّ الجواب في الغالب يدور في فلك تأخر زمني قدره (16) ساعة، أي الفارق الزمني بين التوقيت الأمريكي والصين حسب توقيت غرينيتش، والسبب أنّ زبدة الباحثين توجد في الولايات المتحدة الأمريكية، ولكنّ أهم الأعمال والأفكار متوفرة بشكل رقمي وفوري في العالم الرقمي، لأنّه يكفي أن يكون المعني مُجهزاً بصبيبي إنترنت ومعلومات أولية في الذكاء الاصطناعي، ومن نتائج ذلك أنّ أغلب الباحثين ينشرون فحوى الخوارزميات التي يتوصلون بها بما في ذلك نشر البيانات والنتائج، خاصة أنّ عالم الذكاء الاصطناعي يتميز أساساً بسرعة التقدم والإنجاز، وهذا محفز آخر على النشر الفوري لنتائج الأبحاث، وهذا المعطى محفز على الانخراط في سياقات رقمية لتحكيم أرقام قياسية، خاصة أنّ نشر تلك النتائج ورقياً في مجلات علمية متخصصة غالباً ما يستغرق وقتاً، مع التحكيم والتدقيق، بخلاف نشره رقمياً.

مسك الختام الحافل بإشارات أقرب إلى دروس الحكماء، جاءت في الفصل التاسع والأخير من الكتاب، حيث خلُص (كاي فو لي) إلى أنّنا في حاجة إلى حكمة عالمية الأفق من أجل التفاعل مع حقبة الذكاء الاصطناعي، لأنّ هذه التقنية الفريدة تتميز بخاصية مزدوجة ومتباينة، فكما أنّها تملك قدرة خلاقة في الابتكار، فإنّها تملك قدرة خارقة في التخريب أيضاً، وبالتالي دول العالم مطالبة بالتنسيق والتعاون لمواجهة هذه المخاطر، ولا توجد دولة واحدة معنية أو قادرة على تقديم الحلول وحدها، لأنّ المواجهة لن تخرج عن المواجهة الجماعية ضد تلك المخاطر، حتى نتفادى مأزق واقع ومرعب أشبه بملعب يعرف مباراة كونية متوازنة أساساً تجمع روبوتات مهيمنة ضد فئات عمالية غير نافعة.

 



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية