التّضليل الإعلامي كسلاحٍ ناعمٍ فتّاك

التّضليل الإعلامي كسلاحٍ ناعمٍ فتّاك

التّضليل الإعلامي كسلاحٍ ناعمٍ فتّاك


19/11/2023

ليليان قربان عقل

يتعرّض الإعلام في الأزمات والحروب إلى خللٍ وظيفي، عندما يتحوَّل معه إلى سلاحِ ناعمٍ فتاكٍ بيد القوى المتصارعة، لتحقيق الغلبة وإنجاز الانتصارات، كذلك بهدف إثارة ردود فعل تخدم أهداف المتحاربين الحربية واستراتيجيّاتها القتاليّة. وتظهر أبرز وجوه هذا الخلل في عمليّة اللّجوء إلى تقنيّات "التّضليل الإعلامي" الذي هو مرافق لنشوء الإعلام، غير أنّ ثورة التكنولوجيا، سهّلت استخدامه كوسيلة تضليليّة، وذلك من خلال ما قدّمته من سرعة ولحظويّة انتشار الأخبار الموظّفة، فلجأت إليه بعض وسائل الإعلام في الحروب كأداه حربيّة لتغيير القناعات وصناعة أفكار ومفاهيم تخدم مشاريع واستراتيجيّات معيّنة يجتهد أصحاب المؤسّسات الإعلاميّة في تسويقها لأغراض خاصّة بهم، أو بهدف خدمة سياسة جهّة معيّنة بعيداً من فنون الصدقيّة وأخلاقيّات الإعلام الرصين.

فمنذ القدم، اعتُمدت في الحروب والنزاعات وسائل التضليل بطرقٍ فنيّة مختلفة لإخضاع العدو وتحطيم معنويّاته، ولعلّ أقدم تعريف للتضليل الإعلامي نجده في كتابات "سون تزو – SON TZU" حيث يشير إلى أن "تسميم النفوس" هو تقنيّة، أما "التّضليل الإعلامي" فهو مذهب. وفي كتابه "فن الحرب – Art of War" يعتبر أنّ "أسمى فنون الحروب هي في إخضاع العدو من دون مجابهته"، وهذه أطروحة عسكريّة صينيّة كتبها أثناء القرن السادس قبل الميلاد.

وغالباً ما يعتمد الإعلام في الحروب والأزمات على التضليل كأساس لخداع العدو ودفعه إلى اتّخاذ قراراته على أساس معطيات خاطئة، كعمليّة التّضليل الإعلامي الكبيرة التي قام بها البريطانيّون في ربيع عام 1944 من أجل دفع هتلر والمحيطين به من أصحاب القرار إلى الاعتقاد أن "الإنزال البحري" للحلفاء سيتمّ في منطقة غير "النورماندي" فكسب الرأي العام الأميركي والدولي تلك العمليّة التي غيّرت مجرى الحرب العالميّة الثانية.

وفي عام 1990، وقبل حرب الخليج الأولى، مارس الأميركيّون الكثير من الأعمال التي تشملها تسمية "التّضليل الإعلامي" ضدّ صدّام حسين من جهة، وكسب الرأي العام الأميركي والدّولي من جهة أخرى. وفي كتابه "أميركا التوتاليتاريّة" يصل الكاتب ميشال بوغنون – موردان إلى الاستنتاج نفسه الذي وصل إليه إيان ماسترز، أحد روّاد هيئة الإذاعة البريطانيّة، إذ يقول إن "تزوير التاريخ والتلاعب بالأعمال" يستعملهما الأميركيّون بمهارة، وذلك بسبب الخبرة الطويلة في الإعلان واحتكار وكالات الصّحافة الدّولية والقوّة الماليّة وامتلاك أجهزة إعلاميّة ومؤسّسات تربوية في أنحاء العالم.

واليوم، في حرب غزّة، يشكّل الإعلام التضليلي سلاحاً أساسياً، فغالباً ما يدخل انتقاء وسائل الإعلام المصطلحات والكلمات ضمن استراتيجيّة الحرب والتي من ركائزها، تشويه صورة العدو باستخدام كل الوسائل المتاحة، كالخبر المركّب والصورة المفبركة والشائعات بقصد التأثير على عقل الجمهور وعواطفه وتأطير أصول الخبر وفق الأهداف العسكريّة التي تفرضها أرض المعركة، هكذا اجتهد الإعلام الغربي في تجنيد ماكيناته الإعلاميّة لتشويه الحقائق وتضليل الرأي العام من خلال نشر صور وفيديوات مُفبركة تظهر الشعب الفلسطيني إرهابياً. حتى صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركيّة العريقة خرجت بمانشيت تظهر صور مأساة الأطفال اليهود في حين أنّها صور تعود لأطفال غزّة الذين قتلوا بالقصف الإسرائيلي.

ولم يقتصر التّضليل الإعلامي على الفبركة والكذب واختلاق الأخبار، بل عمل على تغييب الوقائع الميدانيّة والتغطية الميدانيّة ومنع وسائل الإعلام من مواكبة الحدث.

في المقابل، يفتقد الإعلام العربي رؤية إعلاميّة وطنيّة موحّدة قادرة على التعاطي مع الضخّ الإعلامي الغربي المنحاز والذي يعتمد تقنيّات تضليليّة عالية. من هنا تظهر أهميّة وضع خطّة إعلاميّة متماسكة خاصّة في زمن الحرب، تكون قادرة على كشف الأخبار الزائفة، الكاذبة والمضلّلة، والتي تسبّب حالة من الاضطرابات النّفسيّة والتشويش الذهني عند الجمهور والمتحاربين، وتجعلهم رهينة أخبار خاطئة وتنبّؤات كاذبة تسارع وسائل الإعلام إلى تبنّيها كتأكيد لحصولها على سبق مهني قبل وقوع الحدث، وهذا ما يجعل من الإعلام ضحيّة للتضليل!

ويتطلّب كشف التضليل مواكبة لحظويّة للتطوّرات الميدانيّة، بموضوعيّة ودقّة وبالمحافظة على جودة المعلومات والصور والأعداد والأرقام لحماية الناس من الأخبار غير المؤكّدة والصور المركّبة والشائعات المضلّلة. هنا يبرز دور الإعلامي الميداني في زمن الحرب، الذي يفترض ألّا يكون جزءاً من الحدث، بل أن ينقله بأمانة ومسؤولية وعدم التسرّع بتبنّي أي خبر من دون التأكّد من مصدره وحيثيّات حدوثه على أرض الواقع، حيث تفرض الحرب قانونها الذي لا قانون له، فيكون الإعلامي الميداني عُرضةً للكثير من الضغوط  النفسيّة، الأمر الذي يفرض أن يكون محصّناً بالموضوعيّة المهنيّة وبالحسّ الوطني وبالالتزام بالأخلاقيّات الإعلاميّة.

ففي زمن الحرب والنزاعات، تظهر أهميّة أن ترسم الوسيلة الإعلاميّة استراتيجيّة لمواجهة التطوّرات الميدانيّة والأمنيّة المفاجئة، والاطلاع على أسباب الخلافات والمواكبة اللّحظويّة لمواقف أطراف النّزاع ومراقبة صحّة الصورة وجزئيّات المعلومة قبل تبنّيها ونشرها. ومن خلال الحفاظ على صدقيّتها الإعلاميّة وحرصها على تحمّل مسؤوليّتها المهنيّة والأخلاقيّة والوطنيّة، يجب على وسائل الإعلام، نظراً لدقّة الظرف ولخطورة عدم تبنّي أي خبر يؤثّر على سلامة الناس وأمنهم، ويُسهم بزعزعة استقرارهم النّفسي وأمنهم الاجتماعي.

ويكتسب التّضليل الإعلامي أهميّة خاصّة، خصوصاً في زمن الحروب حيث الإعلام سلاح فتّاك يجتهد من أجل صوغ رأي عام وتشويش الأذهان، والتأثير على العقل كما على العواطف والمخيّلة. وقد شاع استعمال تعبير "التضليل الإعلامي" في الآونة الأخيرة من خلال وسائل الإعلام الجماهيريّة، ثم بفعل وسائل الاتّصال الجديدة التي وفّرتها ثورة المعلوماتيّة والإنترنت باعتباره "فن التستّر وراء القناع"، ما ميّزه عن الدعاية التي تسعى إلى تأكيد وجهة نظر ما ونشر أيديولوجيّات معيّنة. 

في زمن الحروب والأزمات، تظهر الحاجة إلى ضرورة تحسّس "التضليل الإعلامي"، خصوصاً من قبل الإعلامي والصّحافي بالدرجة الأولى، وذلك بمعرفة تقنيّاته وأساليبه لكي لا يقع ضحيّته وينقله إلى جمهور مترقّب وقلق من تداعيات الحرب وارتداداتها، وعندها يتحوّل ناقل الكفر إلى كافر وأكثر.

عن "النهار" العربي




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية