التفاوض على حافة الهاوية: مآلات الحوار النووي بين إيران والولايات المتحدة

التفاوض على حافة الهاوية: مآلات الحوار النووي بين إيران والولايات المتحدة

التفاوض على حافة الهاوية: مآلات الحوار النووي بين إيران والولايات المتحدة


08/05/2025

كان من المنتظر أنْ تشهد الجولة الرابعة من المفاوضات غير المباشرة بين إيران والولايات المتحدة بدايةَ الدُّخول الفعلي في صياغة الإطار العام للتوافق المرتقب بشأن البرنامج النووي الإيراني. وذلك بعد ثلاث جولات من المفاوضات توسطت فيها سلطنة عُمان ، وسادها تفاؤل حذر، تقاسمهُ الجانبان الإيراني، والأمريكي، على حدٍّ سواء. غير أن الجولة الرابعة التي كان  من المقرر عقدُها في العاصمة الإيطالية روما يوم السبت 3 مايو 2025، تأجّلت إلى موعدٍ غير مُحدّد. وكان من المقرّر أيضاً أنْ تترافق تلك الجولة، مع جولة مفاوضات إيرانية - أوروبية أُلغيت هي الأخرى؛ ما عزّز الانطباع بوجود خطبٍ ما، يُعرقل مسار التوصل إلى توافق مُبكرٍ، حتى إن كان هذا التوافق جُزئيّاً أو مرحليّاً. وكانت مؤشرات هذا التعثر قد بدأت في الظهور منذ نهاية الجولة الثالثة، حين تبين أن الوفد الإيراني ممتعضٌ من طرح الوفد الأمريكي ملفاتٍ أخرى غير البرنامج النووي على طاولة المفاوضات، مثل: البرنامج الصاروخي. ثم جاءت التطوراتُ الإقليمية اللاحقة لتُعمّقَ الشّرخ بين طهران وواشنطن.

تصعيد متبادل غير بعيد عن المفاوضات

شهدت المرحلة التي أعقبت الجولة الثالثة من المفاوضات، صعود ما يمكن أن نطلق عليه "خطاب الصقور" على الجانب الأمريكي. بعد أن كانت المقاربة الأكثر اعتدالاً، التي تبنّاها "الحمائم"، هي السائدة في تعامل إدارة الرئيس ترمب مع الملف النووي الإيراني لأسباب متعددة. وقد تجسّد هذا التحول في تصريحات حادّة، أدلى بها كل من وزير الدفاع، ووزير الخارجية الأمريكيين، عكست رفضاً أمريكياً واضحاً للاعتراف بحق إيران في تطوير برنامج نووي سلمي متكامل، يشمل تخصيب اليورانيوم، وزاد من حدة هذا الموقف ما أكده الرئيس ترمب لاحقاً، حين صرّح بأن الهدف النهائي لواشنطن من المفاوضات، هو التفكيك الكامل للبرنامج النووي الإيراني. ويُعد تصريح ترمب بمثابة عودة إلى النموذج الليبي الذي سبق أن طُرح ضمن أجندة الجمهوريين.

وكان يُفترض أن تمثل إقالة مستشار الأمن القومي الأمريكي، مايكل والتز، مؤشراً على تعزيز نفوذ التيار المعتدل بقيادة نائب الرئيس جي دي فانس، والمفوض الأمريكي للشرق الأوسط ستيف ويتكوف (لاسيما أن والتز كان معروفاً بمواقفه المتشددة تجاه إيران) فإن تعيين وزير الخارجية ماركو روبيو، المعروف بتبنّيه مواقف مشابهة بديلاً عن والتز، كشف ضمناً عن رغبة الإدارة الأمريكية في إبقاء هذا المنصب بيد الصُّقور.

وفي خضم هذا التصعيد الأمريكي تجاه الملف النووي الإيراني، أطلق الحوثيون (الذين اتهمهم الرئيس الأمريكي في وقت سابق بأنهم ليسوا أكثر من ذراع إيران الإقليمية) صاروخاً باليستياً تجاوز هذه المرة أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية، ليسقط قرب مطار بن غوريون. وأعاد هذا التطور الميداني إلى الواجهة مجدداً التهديد المزدوج المتمثل في الميليشيات المدعومة من إيران، وصواريخها البالستية، كما أعاد إلى الميدان اللاعب الإسرائيلي الذي بدا في الآونة الأخيرة مُستاءً من مسار المفاوضات، ومن مُقاربة الرئيس ترمب اللّينة تجاه إيران.

وسارعت وزارة الخارجية الإيرانية إلى نفي أي علاقة لطهران بالهجوم، مؤكدةً أنّ ربط ما يقوم به الحوثيون  بطهران، هو ضرب من الإهانة إلى الشعب اليمني الذي يمتلك كامل قراره. لكنّ الصّلة بين طهران والضربة الحوثية كانت واضحة لدى المراقب الإسرائيلي، ولدى دوائر القرار الأمريكية المُتشدّدة إلى درجة أنها كانت كافية لدعم الخطاب التصعيدي ضد طهران.

وفي إيران، تباينت  الأنباء والتحليلات بشأن حادث انفجار ميناء رجائي في مدينة بندر عباس في 26 أبريل الماضي؛ حيث رأى البعض فيها ملامح مؤامرة، كما أشارت مراكز التحليل إلى هذه صلة بين الحادث ومسار التفوض، حيث وصفت صحيفة إيرانية من التيار الإصلاحي الحادث بأنه طلقة نحو المفاوضات.

تحريك خطوط الصّدع

يعودُ جزء كبير من هشاشة مسار المفاوضات بين الولايات المتحدة وإيران إلى التباينات العميقة داخل المؤسستين السياسيتين في كلا البلدين حيال المفاوضات؛ ما يجعل طاولة الحوار أشبه بصفيح رقيق من الجليد الذي يفسح المجال أمام من يرغبون في ضرب الطاولة.

وعلى الجانب الإيراني، جاء الدخول إلى مسار المفاوضات على مضض. وكان أشبه بانزلاق قسري لا خيار فيه؛ فقبل أسابيع فقط من بدء الجولة الأولى للمفاوضات، كان القائد الأعلى علي خامنئي قد جدَّد رفضه لفكرة الحوار مع واشنطن، واصفاً إياه بأنها ضرب من السذاجة، وفقدان للكرامة. كما لا يزال المتشددون الذين يهيمنون على مؤسسات سيادية مثل الحرس الثوري، يرفضون التفاوض، ويؤكدون أنه مسار عقيم، بما يجعل اللجوء إلى طاولة المفاوضات خطاب الأقلية في المؤسسة السياسية الإيرانية. وعلى الرغم من أن قرار اللجوء إلى المفاوضات، يعد في اللحظة الراهنة هو القرار الغالب على المشهد السياسي الإيراني، فإن المعارضين يمتلكون من الأدوات ما يمكّنهم من تعطيله في كل لحظة.

أما على الجانب الأمريكي،  فبينما أجمعت الإدارة الجمهورية (التي سبق لها الانسحاب من الاتفاق النووي في مايو 2018 ) على أن تنخرط في مفاوضات مع طهران، فإنها تُعاني من انقسام داخلي حادّ حول أهداف الحوار. فبينما يدفع تيار نحو تبنّي "النموذج الليبي"، هناك تيار آخر يفكّر في العودة إلى حدود الاتفاق النووي السابق، والاعتراف بحق إيران في تخصيب اليورانيوم بنسبة 3.67 بالمائة، ثم ضمان تنازلها عما هو أكثر من ذلك مقابل مُحفّزات مالية. ويبدو الشّرخ عميقاً وغير محسوم بين التيارين؛ إذ يعكس هذا الانقسام نفسه في مواقف الرئيس الأمريكي الذي لم يبلور بعد رؤية واضحة. إذ يؤكد تارة أنه يفكر في حق إيران في امتلاك برنامج نووي غير تسليحي، ويؤكد تارة أخرى أنَّه يهدف إلى القضاء على البرنامج النووي الإيراني بالكامل.

وبشكل عام، يفتقر الطرفان إلى قرار حاسم ونهائي، ويظل القرار في طور الصياغة المتواصلة نتيجة تنافس بين خطابين متنافسين يميل أحدهما إلى الحوار وحلول الوسط، بينما يميل الآخر إلى حسم الملف من طريق حلول حدية. ويسهم الانقسام الحادّ بشأن جدوى الحوار وتأجيل الحسم في اتخاذ القرار النهائي، في تحويل طاولة المفاوضات إلى ساحة هشّة قابلة للاهتزاز، تتيحُ المجال أمام الأطراف الرافضة لمسار التفاوض، وعلى رأسها إسرائيل، لِلّعب على خطوط الصّدع القائمة. وممّا يعزز موقف الرافضين، ويؤدي إلى استفحال خطابهم، هو تلك الخطوات التي يلجأ إليها المتشددون على الجانبين الإيراني والأمريكي، إذ يحاول الصقور على الجانب الأمريكي التلويح بالخيار العسكري من طريق تعزيز الحضور الحربي ونقل المعدات العسكرية إلى القرب من إيران، وعلى الجانب الإيراني يحاول الحرس التلويح بالمخالب من طريق عرض المدن الصاروخية، والتعزيزات الحربية، والصواريخ الباليستية الجديدة، والتأكيد على الاستمرار في تبني دعم الميليشيات العقائدية.

ولا تقتصرُ حالةُ الامتعاض من ترجيح خيار المفاوضات بهذه الطريقة على إسرائيل فحسب، بل تمتد أيضاً إلى بعض الأطراف الأوروبية المُشارِكة في الاتفاق النووي، والتي تخشى تهميش دورها في حال توصّلت واشنطن وطهران إلى تفاهم ثنائي. وتلجأ هذه الأطراف إلى استغلال نقاط التوتُّر داخل الإدارة الأمريكية، بالدفع نحو تبني مواقف الصقور في الادارة، ومحاولة فرض البرنامج الصاروخي الإيراني بوصفه أحد محاور التفاوض. وبهذا الشكل، تعمل استراتيجية " اللعب على خطوط الصدع" على جعل خيار المفاوضات هشّاً وآيلاً إلى الانهيار في أيّة لحظة من طريق حشره في دائرة خيار الأقلية، وتتغذّى هذه الهشاشة قبل كّلِ شيء من تشظي المواقف داخل الجهازين السياسيين في إيران والولايات المتحدة. 

مصيرُ المفاوضات في ظل "حرب المنطقة الرمادية"

لا يعني هذا المشهد المُعقّد أنّ الأيام المقبلة ستشهد القضاء على خيار المفاوضات أو تحويله إلى مسار عقيم. فعلى رغم هشاشته، وافتقاره إجماعاً داخلياً داخل المؤسستين السياسيتين في كلٍّ من طهران وواشنطن، يظلُّ خيار التفاوض هو المسار العملي الأكثر حُضوراً على الأرض. ومع ذلك، سيظل هذا الخيار عرضة لهزات مُتكرّرة، وضغوط متزايدة من مختلف الأطراف، سواء من القوى المناوئة له في داخل إيران أمريكا، أو من الجهات الخارجية الرافضة لهذه النسخة من المفاوضات.

ويبدو مُرجّحاً تماماً أنْ تشهد الأيام المقبلة موجاتٍ أُخرى من التّصعيد. فعلى الجانب الإيراني، يبرزُ الحرس الثوري والمجموعات العقائدية التي تهيمن على القرار السياسي الإيراني، وتلك الكتل التي ترفض الحديث عن ملفات خلافية أخرى تعتبرها محظورة، مثل البرنامج الصاروخي، والمشروع الإقليمي. لتكون النتيجة المفترضة مزيداً من الخطوات السياسية التي تُلوِّح برفض المفاوضات، والخطوات الميدانيّة المستفزّة للجانب الآخر، مثل استعراضات الأسلحة والصواريخ البالستية المثيرة للجدل أو عبر الخطوات التي تقوم بها ميليشيات على صلة بالمؤسسات الثورية الإيرانية. أما على الصعيد الأمريكي، فمن المتوقع أنْ يتواصل التّصعيد من قبل الصقور داخل الحزب الجمهوري، وداخل المؤسسة العسكرية الأمريكية التي يهيمن عليها الجنرالات على حد سواء.

ومن المُرجَّح أيضاً أن يستمرّ الضغط الخارجي من جانب إسرائيل، عبر التلويح بضرب أهداف داخل إيران، وشن عمليات تخريبيّة ضدّ منشآتٍ نوويّة، أو توجيه ضرباتٍ لحلفاء طهران الإقليميين، في محاولةٍ لاستفزاز إيران، ودفعها إلى الانسحاب من طاولة المفاوضات أو الردّ على إسرائيل عسكريّاً. كما سيكون مُرجّحاً أنْ تشهد الأيام المقبلة مزيداً من التصعيد الأوروبي، وذلك في سياق التلويح باللجوء إلى "آلية الزناد"، أو عبر المطالبة بضرورة بأن تتضمن طاولة المفاوضات ملفات أخرى مثل الصاروخي والإقليمي. 

وستكون مفاوضات الملف النووي بين الولايات المتحدة وبين إيران مفاوضات هشة، تجري في ظل حربٍ تُخاض في المنطقة الرّمادية. ومعنى ذلك أنها ستكون عُرضةً لهزّاتٍ وصدماتٍ تُضعِفُ الخطاب الداعم للمفاوضات على كلا الجانبين، وتُعزّز موقف الخطاب الداعم للحلول الحدّية، أو الانسحاب من دائرة المفاوضات. غير أنّ ذلك لا يعني انزلاق الأطراف إلى مواجهة مفتوحة بالضرورة، بمقدار ما يعني بقاء الحالة في حدود "المنطقة الرمادية" التي تؤثر على المشهد دون أنْ تمتلك القدرة على هدمه. ومع ذلك فإن بقاء المفاوضات الهشَّة في ظل حالة الحرب في المنطقة الرمادية يعني بقاءها على مشارف الانزلاق إلى الهاوية في أية لحظة؛ إذ سيكون الأمر رهناً بإدارة "خطوات التصعيد"، وسُبُل الحؤول دون تحولها إلى خطوات قاتلة.

عن مركز الإمارات للسياسات




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية