إميل أمين
يوماً وراء الآخر تثبت الإمارات أنها تفعل ما تقول، وأن سعيها لاعتبار الإنسان هو القضية وهو الحل، أمر جدي، تؤمن به، وتمضي لتأكيده بكل ما يقدر لها من أدوات معنوية أو مادية. وسط الزخم الكبير للقمة العالمية للحكومات التي شهدتها دولة الإمارات مؤخراً لم تلتفت غالبية وسائل الإعلام الدولية وربما المحلية إلى تصريح غاية في الأهمية ويمثل مرحلة جديدة وخلاقة من السياسات الإماراتية التسامحية والتصالحية النازعة لصون البشر وحياتهم الإنسانية من جهة، وترميم الحجر والاعتناء به ليضحى في خدمة البشرية من ناحية أخرى.
التصريح ورد على لسان معالي «نورة الكعبي» وزير الثقافة وتنمية المعرفة، وأشارت فيه إلى أن الإمارات قد قررت إعادة بناء وترميم كنيستي الساعة والطاهرة في حي الموصل في بغداد، وذلك بالتعاون مع منظمة «اليونيسكو»، وخلال مدة زمنية تتراوح بين 4 و5 سنوات، تتحمل فيها الإمارات التكلفة اللازمة، لتكون الإمارات أول دولة في العالم تعيد بناء كنيستين في تلك المدينة العراقية ذات التاريخ المسيحي الطويل والعريق، والمرتبط بأسفار بعينها في التوراة.
حين استقبلت الإمارات الحبر الأعظم البابا فرنسيس كان الهدف الأول والأهم هو بدء مرحلة أممية جديدة من طريق الأخوة الإنسانية الناجزة والفاعلة، وهذه الخطوة ربما كانت تحتاج إلى معالجة لأوجاع أخوة كثر في الشرق الأوسط، ومنهم المسيحيون العرب، أولئك الذين ذاق فريق منهم العذاب والقتل والموت من جراء تنظيم «داعش» الإرهابي، وبنوع خاص طوائف السريان والكلدان والآشوريين في كل من العراق وسوريا طوال السنوات الخمس المنصرمة.
لم يتوقف الألم عند التهديد البشري سواء بالقتل أو التهجير، وإنما انسحب على تدمير كافة دور العبادة، وإحراق مكتبات إنسانية تراثية داخل أديرة في العراق وسوريا، احتوت على أمهات الكتب العربية، ذلك أنه لا يغيب عن ناظري أي باحث جاد في تاريخ الحضارة العربية كيف لعب النصارى العرب في تلك البقعة من العالم العربي دوراً جوهرياً في نشوء وارتقاء حضارة شاركوا في صُنعها مع إخوانهم من المسلمين، وحتى من اليهود العرب الذين استوطنوا تلك البلاد في زمن المجد التليد.
يعن لنا أن نتساءل: «ما هو الهدف من إعلان الإمارات قيامها بترميم كنيستين من كنائس المسيحيين العراقيين؟».
قبل الجواب ربما يتوجب علينا الإشارة إلى أن ما تقوم به الإمارات يُظهر النسيج الحضاري والإنساني العروبي الحقيقي، بدون تمايز ولا تصنيف على أسس مذهبية أو طائفية، وفي الوقت عينه يكشف زيف كثير من الادعاءات الغربية التي تتشدق بالحريات الشخصية وباحترام ممارسة الشعائر الدينية للآخرين، والسعي إلى توفير مناخات جيدة للآخر المغاير، وتحديداً المزايدة على الدعم الأدبي للمسيحية والمسيحيين حول العالم، وفي وقت الشدة والحاجة تظهر الإمارات معدناً عروبياً وإنسانياً أصيلاً، ومن غير انتظار الشكر من الآخرين، بل يكفي أن تبقى الإمارات في حاضرات أيامنا «مدينة فوق جبل» من المودات والتراحم الخلاق.
تذهب الوزيرة نورة الكعبي إلى أن الهدف من وراء تبني إعادة ترميم الكنيستين، هو إرسال رسالة للعالم مفادها أهمية التراحم والتعايش والتسامح، حيث كانت مدينة الموصل في السابق، مثالا على احتضان كل الديانات، والجميع كانوا يتعايشون بتسامح عميق، فهي مدينة غنية بمساجدها وكنائسها ومعابدها الإيزيدية واليهودية، وجامعاتها العريقة، والجميع كان بينهم تنوع وتراحم.. هل نحن أمام طرح «طوباوي» يتجاوز مرارة الواقع؟ أكثر من مرة في كتابات سابقة أشرنا إلى أن الإمارات قد أضحت وعن حق «رواق الأمم» المعاصر، ذلك الذي كانت تلتقي فيه شعوب العالم وحكماؤه في القدس قديماً، والآن باتت الإمارات هي الرواق الإنساني المحدث، حيث فرص التجاور والتحاور والاعتداد بالآخر أخا في الإنسانية وشريكاً في صنع الحضارة البشرية. لم يتوقف إرهاب «داعش» في العراق عند حدود الكنائس بل تجاوزها إلى مساجد البلد التاريخية وفي المقدمة منها جامع النوري الكبير الذي ناهز التسعة قرون، ولم يختف من الوجود إلا بعد أن ساد الظلاميون من «الدواعش» العراق، وها هي الإمارات تعيد إعماره من جديد. لا تتوقف الإمارات عند صيانة الحجر، بل إنها تقدم الدعم المستمر والمستقر لأهالي الموصل بهدف إعادة بناء الحياة، ووصل شرايينها التي تقطعت، وذلك عبر إعادة رص البنيان الثقافي والديني معا. ما تقوم به وزارة الثقافة الإماراتية في عام التسامح من مشروعات تعزز العيش الإنساني الواحد عربيا تجربة رائدة كفيلة بتغيير شكل عالمنا العربي في قادم الأيام. أحلى الكلام.. طوبى لصانعي السلام.
عن "الاتحاد" الإماراتية