الإرهاب في مالي: صراع محلي صار حريقاً إقليمياً

الإرهاب في مالي: صراع محلي صار حريقاً إقليمياً

الإرهاب في مالي: صراع محلي صار حريقاً إقليمياً


كاتب ومترجم جزائري
14/02/2024

ترجمة: مدني قصري

بعد 9 سنوات من التواجد، غادر الجيش الفرنسي جمهورية مالي دون تمكنه من حلّ المشاكل الهيكلية للبلاد وأسباب الإرهاب. منذ بداية التدخل ارتكبت فرنسا والغرب سلسلة من الأخطاء أدّت في النهاية إلى المأزق الحالي.

في منطقة الساحل يبدو أنّ الوضع أصبح خارجاً عن السيطرة الآن؛ لقد أفسح الانسحابُ الفرنسي الذي فرضه القادة الماليون الحاليون في أعقاب أخطاء باريس الفادحة والمتعددة، المجالَ واسعاً أمام الجماعات المسلحة الإرهابية، بل هيّأ لها قاعدة نشاط لزعزعة استقرار النيجر وبوركينا فاسو والدول المجاورة،  بالتالي؛ فإنّ السجل السياسي لعقدٍ من التدخل الفرنسي سِجلٌّ كارثي لا محالة.

كارثة يمكن تفسيرها بخطأ أصلي في التشخيص. كان الاستقطاب حول الجهادية بالفعل الحجة المستخدمة لإخفاء جهل صناع القرار الفرنسيين، مقروناً بعدم فهمهم للوضع، حيث إنّ الجهاد هنا يجسد، أوّلاً وقبل كلّ شيء، جروحاً عرقية متعفنة عُمرها عدة قرون من الزمن، بل وأحياناً آلاف السنين.

التوقف عن النظر إلى مسألة الساحل من منظور الأيديولوجية الأوروبية الديمقراطية وآليتها أصبح من الآن فصاعداً ضرورة حتمية؛ لذا فإنّ وضع الأحداث الجارية في سياقها التاريخي الإقليمي هو الأولوية الأولى، لأنّ الأحداث مرتبطة أصلاً بماضٍ راسخ يحدّد إلى حدّ كبير خيارات والتزامات كلا الجانبين.

في منطقة الساحل يبدو أنّ الوضع أصبح خارجاً عن السيطرة الآن

لقد كتِب الكثير عن هذا الموضوع، ومن المهم التذكير بأنّ هناك أربعة أخطاء رئيسة تفسّر التدهور الحالي للوضع الأمني ​​الإقليمي والتي ارتكبها صُنّاع القرار السياسي الفرنسيون:

الخطأ رقم 1

فرضُ "جوهرانية" المسألة من خلال تصنيف منهجي لأيّ قاطع طرق مسلح أو حتى أيّ حامل سلاح على أنه جهادي.

الخطأ رقم 2

تصديق صنّاع القرار لِمكر "الخبراء" وخداعهم، الذين أوهموهم أنّ من وصفوهم بالجهاديين كان تحركهم بدوافع الرغبة في محاربة الإسلام المحلي "المنحرف". ومع ذلك؛ ففي معظم الحالات كان هناك مهرّبون يدّعون أنّهم جهاديون للتضليل وتغطية آثارهم؛ لأنّ ادّعاء القتال من أجل مجد النبي العظيم أهمّ وأجدى من ادعاء القتال من أجل علب سجائر أو شحنات كوكايين، ومن هنا جاءت نقطة الالتقاء بين التهريب والدين، حيث تسلل الأول (التهريب) إلى الفقاعة المؤمَّنة من قبل الإسلاميين.

الخطأ رقم 3

تغاضي صنّاع القرار عن واقع أنهم أمام تشابك مطالب عرقية واجتماعية ومافياوية وسياسية متسترة بالحجاب الديني المناسب؛ فالمسألة وفق لـ Rikke Haugegaard 2018) "الشريعة بزنس الصحراء"؛ يعني أنّه لا بدّ من فهم الصلات بين الشبكات الإجرامية والجهادية في شمال مالي". عبر الإنترنت نحن أمام وجود كلّ هذا في الوقت نفسه، بدرجات مختلفة  من الأهمية المرتبطة بكل نقطة بحسب الأوقات:

"تسترشد أعمال الجماعات الجهادية بتركيبة من العوامل، تتراوح من صراعات السلطة على المستوى المحلي إلى الصراعات العشائرية الداخلية، إلى السعي وراء المصالح الاقتصادية المرتبطة بتجارة التهريب".

الخطأ رقم 4

هذا الخطأ الذي يفسر الأخطاء الثلاثة الأخرى هو الجهل بالثوابت الإقليمية الإثنو-التاريخية-السياسية، وهو الخطأ الذي كانت له نتيجتان سلبيتان رئيسيتان:

- تم تطبيق تفسيرات ساذجة على الخيمياء البشرية الساحلية المعقدة والمتغيرة.

حدد القادة الفرنسيون سياسة ضبابية أدت في النهاية إلى الخلط بين الآثار والأسباب، وهي السياسة التي أدّت في نهاية المطاف إلى الكارثة المشؤومة الحالية في مالي

- فبينما الجهادية تتمثل هنا، أوّلاً وقبل كلّ شيء، في تفاقم وتعفن عدوى جروح عرقية تاريخية قديمة؛ فإنّ اقتراح الحل المتمثل في العملية الانتخابية الأبدية التي ليست سوى مسح عرقي، والحاجة إلى سدّ "عجز التنمية" أو البحث عن  "حوكمة رشيدة" ليست في النهاية سوى ضرب من الدجل سياسي...

لهذا السبب تحوّل صراع كان في الأصل صراعاً محلياً محصوراً في شمال شرق مالي في فصيل الطوارق، والذي يعتمد حلّه أساساً على تلبية المطالب السياسية المشروعة لهذا الفصيل، إلى حريق إقليمي يفلت الآن من كلّ السيطرة.

عودة إلى الخلف

عام 2013، عندما كان تقدم سيرفال واستعادة مدن شمال مالي مشروطَين بتنازلات سياسية من قبل سلطة باماكو ظلّ صناع القرار الفرنسيون يماطلون ويراوغون، ناهيك عن أنهم لم يجرؤوا على فرضها على السلطات الجنوبية في مالي، واختاروا الاتكاء على أوهام الديمقراطية وسراب التنمية.

والحال أنّه، كما تُظهر الأحداث باستمرار؛ ففي أفريقيا  الديمقراطية = عرقي- رياضي، مما أدى إلى فوز المجموعات العرقية الأكثر عدداً في الانتخابات تلقائياً، لهذا السبب، بدلاً من إطفاء بؤر الحرائق الأصلية فقد زادتها الانتخابات اشتعالاً، أمّا بالنسبة للتنمية فقد تم خوض الكثير من التجارب في هذا المجال منذ الاستقلال، لكن من دون جدوى. علاوة على ذلك كيف لا يزالون يجرؤون على الحديث عن التنمية بينما ثبت أنّ الديموغرافيا الأفريقية الانتحارية تحول دون أية إمكانية؟

تجاهلاً للتاريخ الإقليمي ونسيانه لم يرَ صناع القرار الفرنسيون أنّ الصراعات الحالية هي في المقام الأول عودة ظهور تلك التي كانت سائدة بالأمس، والتي لكونها جزءاً من سلسلة طويلة من الأحداث فهي تفسر العداوات أو التضامنات القائمة في الوقت الحالي.

وهكذا، قبل الاستعمار، كان سكان النهر والمناطق المكشوفة في قبضة كماشة الطوارق المفترسة في الشمال وهيمنة طائفة الفولاني "Peuls" في الجنوب. في نهاية القرن التاسع عشر، مع الاستعمار الفرنسي، أوقف الجيش الفرنسي توسع هذه الكيانات البدوية المفترسة التي أحدث انهيارُها فرحة السكان غير المترحّلين (السكان الحضر) الذين استغلتهم تلك الكيانات، والتي كانت تذبح رجالهم وتبيع النساء والأطفال لتجار للعبيد في العالم العربي الإسلامي.

ولكن بتصرفه على هذا النحو قلب الاستعمار ميزان القوى المحلي من خلال تقديم الانتقام لضحايا التاريخ الأفريقي الطويل، بينما جمع هذا الاستعمار المُغِيرين والمُغار عليهم ضمن الحدود الإدارية لـ "AOF" (غرب أفريقيا الفرنسية). ومع ذلك، مع الاستقلال أصبحت الحدود الإدارية الداخلية لهذه المجموعة الواسعة حدودَ دول انتصر داخلها السكان الحضر (المستقرون) انتصاراً سياسياً على البدو، نظراً لأنهم كانوا الأكثر عدداً، وفقاً للقوانين الثابتة المرتبطة بالانتخابات العرقية.

تحوّل صراع كان في الأصل صراعاً محلياً محصوراً في فصيل الطوارق، والذي يعتمد حلّه أساساً على تلبية المطالب السياسية، إلى حريق إقليمي يفلت من كلّ السيطرة

كيف أمكن لصناع القرار الفرنسيين أن يتخيلوا أنّ عملية برخان العسكرية بوسائل سخيفة على صعيد مسرح العمليات، وفيما قطاع الساحل الصحراوي مستقل، تستطيع أن تضمّد هذه الجروح العرقية المفتوحة منذ فجر التاريخ والتي تشكل أرضاً خصبة للجماعات الإرهابية المسلحة؟

في عام 2020 أضيف إلى هذا الجهل بالبيئة وتاريخها عدم فهم وضع جديد، عندما تفاقم الصراع بين "EIGS" (الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى) و"AQMI" (تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي)، ما أتاح لفرنسا على هذا النحو فرصة رائعة للعمل، ولكن، مع ذلك، كان لا بدّ من أن يعرف خريجو مدرسة العلوم السياسة "Science-Po" أي الذين يصنعون السياسة الأفريقية لفرنسا ما يلي:

- أنّ هدف الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى "EIGS" المرتبطة بداعش قائم على فكرة إنشاء خلافة عرقية واسعة تحل محل الدول الحالية، وتشمل جميع أنحاء قطاع الساحل والصحراوي.

- في حين أنّ تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي المنبثق محلياً عن شرائح كبيرة من الشعبين الكبيرين هو أصل الصراع، وهما الطوارق والفولاني، الذين لا يدافع قادتهما المحليان، الطوارقي إياد أغ غالي والفولاني أحمدو كوفا، عن تدمير دول الساحل الحالية.

في 3 حزيران ( يونيو) 2020، منحت وفاةُ الجزائري عبد المالك دروكدال، زعيم تنظيم القاعدة في شمال أفريقيا وشريط الساحل، الذي قُتل برصاص الجيش الفرنسي، فرصةً للطوارقي إياد آغ غالي وبول أحمدو كوفا لتحقيق حكمهما الذاتي، محرِّرة إياهما على هذا النحو من كل خضوع لأيّ طرف خارجي، فلم تعد القاعدة بعد قيام برخان بتصفية "الأمراء الجزائريين" الذين كانوا يقودونها حتى ذلك الحين في قطاع الساحل الصحراوي، مسيَّرةً من قبل أجانب، من قبل "العرب"، ولكن من قبل "إقليميين".

بعد انسحاب القوات الفرنسية بأيام من مالي، بدأت تظهر الجماعات الإرهابية، ووجّهت هجمات إرهابية لمجموعة فاغنر الروسية

لم تستوعب باريس أيضاً أنّ هؤلاء كان لهم نهج سياسي إقليمي، وأنّ مطالبهم كانت، أولاً وقبل كلّ شيء، مرتبطة بعودة ظهور مطالب متجذرة في شعوبهم، وبالتالي فإنّ "معاملة" الفصِيلين الجهاديّين كانت تستحق علاجات مختلفة، لم يرَ صناع القرار الفرنسيون أنّ هناك فرصة سياسية وعسكرية لا بدّ من اغتنامها، فرفضوا رفضاً قاطعاً أيّ حوار مع إياد أغ غالي، بل على العكس من ذلك؛ أعلن الرئيس ماكرون أنّه أعطى برخان الأمر بتصفيته. وبالفعل، تنفيذاً للأوامر، قتلت القوات الفرنسية في 10 تشرين الثاني (نوفمبر) 2020 الملازم باغ أغ موسى، بينما كان المسؤولون العسكريون الفرنسيون على الأرض يتجنبون، بذكاء شديد، اتخاذ إجراءات مباشرة إزاء هذه الحركة.

خلافاً لما دعا إليه قادة برخان العسكريون، استمرت باريس في عناد في اتباع إستراتيجية "على النمط الأمريكي، موجهة ضربتها بشكل عشوائي لكل الجماعات المسلحة الإرهابية التي صنفتها بشكل قاطع جماعات "جهادية"، رافضة أي نهج فرنسي "جيد"...

هذا هو السبب الذي جعل القادة الفرنسيين يضيفون في نهاية المطاف أخطاء جديدة، بانغلاقهم في فقاعتهم الأيديولوجية وإهمالهم لمراعاة ثِقل التاريخ العرقي. وهكذا حدد القادة الفرنسيون سياسة ضبابية أدت في النهاية إلى الخلط بين الآثار والأسباب، وهي السياسة التي أدّت في نهاية المطاف إلى الكارثة المشؤومة الحالية.

مصدر الترجمة عن الفرنسية:

revueconflits.com

 

مواضيع ذات صلة:

حضور روسي وغضب فرنسي وتوغل إرهابي... ماذا يحدث في مالي وغرب أفريقيا؟

لماذا قطع الحكام العسكريون في مالي العلاقات مع فرنسا؟

هل يؤجج الانقلاب في مالي الصراع بين فرنسا وروسيا؟



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية