يبدو أنّ استلاب الحياة في المنطقة العربية أصبح طقساً عادياً، خاصة في العراق، يجوس حول الناس ويعبر إلى يومياتهم، من دون أن يشعرهم بإزعاج يثير الانتباه، بل بات الموت مجانياً لم يعد كثيرون، في الغالب، يستشعرون بشاعة صوره، وتجعل مراقبي المشهد محايدين بلا انفعال أو رفض وتمرد.
اقرأ أيضاً: من وراء اغتيال الأديب العراقي مشذوب؟.. ردود فعل على الجريمة
في خضم هذا الواقع المؤلم، باغتت ثلاث عشرة رصاصة الروائي العراقي، الدكتور علاء المشذوب، من قبل مجهولين، فأردته قتيلاً، بينما كان في طريق عودته إلى منزله، في وسط محافظة كربلاء، جنوب بغداد؛ تلك المدينة التي كتب عن شوارعها وأزقتها، بيوتها ومبانيها، واشتق من ذاكرة المكان الذي حفل بوقائع تاريخية عديدة، شخصيات وحوادث كانت عماداً لمعماره الفني والأدبي في رواياته.
سيرة الموت في كربلاء
يأتي اغتيال المشذوب في الثاني من الشهر الجاري ضمن عدة اغتيالات شهدها العراق خلال العامين الماضيين، واستهدفت رموزاً ثقافية، في ظل تنامي خطاب طائفي متشدد لدى تنظيمات وميلشيات متعددة، خصوصاً، لدى جماعات شيعية، من بينها، كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق، والأخيرة يشير إليها كثيرون بإصبع الاتهام بأنّها وراء تنفيذ عملية اغتيال الروائي العراقي.
لم تكن هذه الحادثة هي الأولى من نوعها حيث تصاعدت حوادث العنف والاغتيالات في العراق خلال الأعوام الأخيرة
من جهته، وجه رئيس مركز الرافدين الدولي للعدالة وحقوق الإنسان، راهب صالح، اتهامه إلى مليشيا عصائب أهل الحق باغتيال المشذوب، حيث كتب في تغريدة له عبر موقع التواصل الاجتماعي "تويتر": "جرائم عصائب أهل الحق.. مسلحون مجهولون يقودون دراجة نارية قاموا باغتيال الكاتب علاء مشذوب بإطلاق نار في شارع (ميثم التمار ) وسط كربلاء".
لم تكن هذه الحادثة هي الأولى من نوعها، حيث تصاعدت حوادث العنف والاغتيالات في العراق، خلال الأعوام الأخيرة، في ظل تنامي نفوذ الجماعات والميلشيات المسلحة ووفرة السلاح بيدهم، حيث وقع المسرحي العراقي، كرار نوشي، ضحية لهؤلاء، ولحقت به عارضة الأزياء، تارة فارس، والناشطة سعاد العلي، وخبيرة التجميل، رفيف الياسري، وصديقتها رشا الحسن.
الصراع على التاريخ وهدم الذاكرة
ظل صاحب "شيخوخة بغداد"، الأديب والأكاديمي العراقي، المولود في العام 1968، الذي تناوب على الكتابة القصصية والروائية، بالإضافة إلى المقالات الصحافية، مسكوناً في منجزه بالعراق وتاريخه، القديم والحديث؛ حضارته الغنية وأديانه ومعتقداته المتعددة، يفحص أحوال ناسه وتحولاتهم ومصائرهم، ويبحث وراء فقدان التنوع والثراء لحساب التجزئة والطائفية، وسيادة المرجعية الشمولية وهيمنة الصوت الواحد، والذي ذهب بالتنوع والتعايش الحر.
وجه رئيس مركز الرافدين الدولي للعدالة وحقوق الإنسان الاتهام إلى مليشيا عصائب أهل الحق
في هذا السياق، دوّن المشذوب عبر صفحته بعض الكلمات الأخيرة في محبة مدينته، التي ستشهد موته المفجع، وروى بعض مشاعره التي تختلط فيها المرارة بالحميمية، حيث كتب قبل أيام من اغتياله: "صباح الأزقة والشوارع الفرعية لمدينة لم تنعم بالاستقرار أبدا.. في كل مرة أصل إلى رأس شارع (أبو ديه) أقف بحبور عنده وأضع يدي اليمنى تحت حنكي وأتفكر به.. فيرتسم بذهني مرة كسفينة راسية، ومرة خليجاً واسعاً، مرة أراه فكرة مجردة، ومرة حقيقة واقعة.. أية غمامة صيفية بيضاء هذا الذي أقف في حضرته".
اقرأ أيضاً: تونس: ما علاقة الغنوشي في جهاز الاغتيالات السري؟ أدلة جديدة
وفي ظل ما يعتريه الزمن وحفرياته، كان المشذوب يعود إلى فصول التاريخ، يستنطق المكبوت فيها، وما أسفرت عنه المحن والكوارث في تاريخ بلاده، ابتداءً من حصار كورش الفارسي، في العام 539 قبل الميلاد، وحتى ظهور داعش، في العام 2014، مستعرضاً وقائع النهب الكثيرة التي تعرضت له، سواء الفرنسي أوالألماني أو الأمريكي أو العثماني، والذي نجم عنه فقدان الشخصية العراقية لقوتها، وانشطار الزمن إلى حقب متضائلة من الأقليات الدينية والقوميات الصغيرة.
كيف وصلنا إلى "مدن الهلاك"؟
اهتم صاحب "مدن الهلاك" باستعادة تاريخ اليهود في العراق، وفي كربلاء، على وجه التحديد، في روايته، بعدما جرى إسقاطهم عمداً من ذاكرة المدينة، وذلك، باعتبارهم جزءاً من قوام الشعوب العربية وثقافتها واجتماعها، من ناحية، وتوثيق أنّ مدينته ضمت كل الأديان والطوائف والقوميات، وليست مدينة ضعيفة ومغلقة على طيف واحد من البشر، من ناحية أخرى، ما تسبب بحدوث حساسية وخوف وتربص، عند الحديث عن الآخر، أي آخر، وبالتالي، محاولة نزع أردية التعصب عنها، والتفريق بين المشروع الاستعماري للكيان الصهيوني، كمغتصب ومحتل للأرض والتاريخ والمقدسات، وبين اليهودية كدين ضمن تراث الأديان التوحيدية التي اعتنقتها شعوب المنطقة.
وبحسب الروائي العراقي؛ فإنّ القتل والتهجير الذي عانى منه الأيزيديون والتركمان والكاكائيون وغيرهم من الأقليات والأديان الأخرى، على يد داعش، هو نتاج سيرورة من القمع والتعصب بدأ على يد البعث، الذي كان يوظف سياساته ويحشدها لدعم العصبية ضد الأقليات القومية والدينية.
هل قتلت مدافع "آية الله" المشذوب؟
دأب المشذوب على النقد السياسي والاجتماعي لما يحدث في العراق، ولم يتردد في أحاديثه الصحافية، بالإضافة إلى رواياته، عن مهاجمة نظام الخميني وسياسة الملالي العدائية، خصوصاً تدخلاتها في العراق، وما سببته من انهيار في منظومتها الأمنية وتدهور أحوالها الاقتصادية والسياسية.
وإلى ذلك، فقد تزامن اغتيال المشذوب، بعد نشره صورة آية الله الخميني، وكتب معلقاً: "كانت عندي فكرة ضبابية عن هذا الزقاق الذي سكنه الخميني، وهو فرع من الزقاق الرئيسي والطويل والذي يطلق عليه (عك السادة) هذا الرجل سكن العراق والكويت لما يقارب 13 عاماً، ثم رحل إلى الكويت التي لم تستقبله، فقرّر المغادرة إلى باريس ليستقر فيها ومن بعد ذلك صدّر ثورته إلى إيران عبر كاسيت".
دأب المشذوب على نقد ما يحدث بالعراق ولم يتردد في أحاديثه الصحافية بالإضافة لرواياته عن مهاجمة نظام الخميني
وبينما لم يكشف عن هوية قاتل المشذوب والجهة المسؤولة عن ذلك، إلا أنّ ناشطين ألمحوا إلى عدائه ونقده لسياسات إيران، وتورط عناصر تابعة لهم في تنفيذ العملية، وحاول بعضهم الربط بين عدد الرصاصات الثلاث عشرة التي أُطلقت في صدر المشذوب، وبين سنوات إقامة الخميني في العراق الـ13، والتي تحدث عنها في منشوره الأخير.
وفي محاولة لرصد مواقف المشذوب وآرائه، التي راكمت ضده عداء بعض الجهات التي عمدت إلى تصفيته وإسكات صوته، وتسببت في مقتله، قام الإعلامي العراقي، شاهو القرة داغي، بنشر تعليق سابق للمشذوب هاجم فيه إيران، حيث قال: "إذا مرضت إيران تعافى العراق والعكس صحيح، وطبعاً الحكومة ستشكل لجنة وتعلن أنّ الأسباب اجتماعية".
اقرأ أيضاً: حركة النهضة في تونس: تهم بتأسيس جهاز سري واغتيالات محتملة
وفي حديثه لـ"حفريات"، قال الصحافي العراقي، علاء خفاجي، إنّ مقتل الروائي العراقي علاء مشذوب، يمثل "محاولة لقتل الثقافة العراقية، لما كان يمارسه الراحل من حراك ثقافي مدني مهم؛ ساهم من خلاله في تنوير العقل "الكربلائي" الذي ينتمي إليه"؛ مضيفاً أنّ الراحل هو من قادة الحراك المدني في محافظة كربلاء، "وطالما صدح صوته بالحقوق ومحاسبة الفاسدين من القوى الحاكمة في البلاد، لذا، بالتأكيد تكون حياته معرضة للخطر؛ لأننا نعيش في بلاد خفافيش الظلام، والرصاص وحده من يحسم الموقف الرمادي".
وطالب الصحافي العراقي الجهات الأمنية المختصة بالكشف عن ملابسات اغتيال المشذوب، وتقديمهم للعدالة، وأن لا تعمل على تسويف الملفات الجنائية، "كما عملت سابقاً إثر مقتل عارضة الأزياء، تارة فارس، والناشطة، رفيف الياسري، وغيرهن من ناشطات الحراك المدني العراقي".
وأكد: "في النهاية مقتل الروائي العراقي، علاء المشذوب، لا يثني العاملين على التغيير؛ أي تغيير المنظومة التي يقوم عليها الحكم الطائفي الفاسد".