اجترار الذات.. هل الهروب إلى الماضي هو الحل؟

اجترار الذات.. هل الهروب إلى الماضي هو الحل؟

اجترار الذات.. هل الهروب إلى الماضي هو الحل؟


21/10/2023

الاجترار في اللغة هو "ما يفيض به البعير ويأكله ثانية"، وتعود إلى الجذر "جرر"، أي سحب، وهو حالة طبيعية يتمتع بها الحيوان؛ أي إنّه حاجة فيزيولوجية لاستمرارية البقاء، أما الاجترار عند الإنسان فهو تكرار الكلام أو الأفعال دون الإتيان بجديد، وهو أيضاً مرتبط عموماً بالذاكرة الخاصة لكل فرد (أنثى وذكر)، كما أنّ الهوية الشخصية مرتبطة أيضاً ارتباطاً وثيقاً بالذاكرة؛ فمن يفقد ذاكرته لا يستطيع التعرف إلى نفسه وإلى الآخرين والأخريات سواء من أقربائه أو معارفه. ويقابل الاجترار في اللغة الإنجليزية كلمة Rumination، والمقصود بها "التأمل"، والتأمل هو تفريغ الذهن أو "الذاكرة" من الشوائب أو السلبيات وملؤها بما هو إيجابي ومفيد.

اقرأ أيضاً: كيف اكتسب الاستبداد خبرة تصنيع غريزة الخوف؟
في التأمل والتفكير؛ يعمل العقل لتحديد هدف ما والوصول إليه، أما في الاجترار فيكون العقل أكثر نشاطاً، لكن من دون هدف، كاستحضار موقف ما بكل تفاصيله من دون التفكير في الحل، وغالباً يكون الاجترار مصحوباً بعبارة "ماذا لو؟" أي مصحوباً بالندم.

في المجتمعات المأزومة والمشحونة بالتخلف والمحكومة بالاستبداد السياسي والاجتماعي والديني تصبح الذاكرة تراثاً

نتساءل ما الفرق بين الذاكرة واجترار الذات، وهل يتحول اجترار الذات من حالة/ حالات فردية إلى الاجترار الجمعي، كيف ومتى يحصل ذلك؟
إذا أردنا أن نعرّف الذاكرة تعريفاً علمياً يمكننا القول: إنّها خليات وجزيئات في الدماغ مسؤولة مسؤولية مباشرة عن عملية تخزين المعلومات واستجماعها وتنظيمها أو أرشفتها، واستدعائها بصورة واعية، وهذا ما سمّاه العلماء بالذاكرة الصريحة، كما أنّها؛ أي الذاكرة الصريحة، هي ذاكرة الأحداث والحقائق، ولا تنفصل عن باقي أشكال الذاكرة كالذاكرة غير الصريحة أو الذاكرة الاختزالية المسؤولة عن الأحداث الحزينة والمؤلمة.
لكل إنسان ذاكرة يستحضر منها ما يشاء، متى يشاء، كذكريات الطفولة أو الشباب أو أي حدث مهم حصل في حياته البعيدة، والتذكر ليس مجرد استدعاء ذكريات مضت أو استحضارها، بل هو جزء لا ينفصل عن عملية التفكير، ولعله الجزء الأهم الذي يزودنا بأدوات التفكير ومُدخَلاته المستمدة من معارفنا الموروثة والمكتسبة، ومن ثم، إنّ الذاكرة تعين طريقة التفكير، لاقترانها بالوعي واللاوعي أيضاً؛ لذلك تختلف الذاكرة من شخص إلى آخر حسب البيئة التي يعيش فيها الفرد، وحسب التنشئة الاجتماعية أو الدينية أو الاقتصادية، وحسب الثقافة بوجه عام.

اقرأ أيضاً: هل انهارت فعلياً الشروط الضرورية للحياة الإنسانية؟
ما من شك في أنّ الذاكرة فردية، كالمعرفة، ولكن لا وجود للفرد الإنساني إلا في إطار جماعة أو مجتمع، ولا يكون الفرد كائناً اجتماعياً إلا بقدر ما يشارك الجماعة أو المجتمع في جملة من الأفكار والمعارف والمبادئ والقيم، التي تنتقل من جيل إلى جيل، فتشكل الوعي الاجتماعي والذاكرة الجمعية.

اجترار الموروث الثقافي والاجتماعي والديني والسياسي يحبس المجتمعات في بوتقة صلبة

وتصبح الذاكرة جمعية عندما يتعلق الأمر بحدث ما يؤثر في المجتمع بشكلٍ أو بآخر، كالحروب والثورات الاجتماعية والسياسية، والثورات العلمية والتقنية، فتصبح تاريخاً مشتركاً تتذكره تلك المجتمعات، لكن في المجتمعات المأزومة والمشحونة بالتخلف، والمحكومة بالاستبداد السياسي والاجتماعي والديني؛ تصبح الذاكرة تراثاً، ونقصد الذاكرة غير الصريحة أو الذاكرة الاختزالية، لا بل تصبح اجتراراً للذات، في الألم والمعاناة فقط، كذاكرة الانتصار الوهمي الذي عاشه وما زال يعيشه السوريون في حرب تشرين منذ العام 1973، والذي يسمونه "ذاكرة وطن"، وذاكرة القومية العربية، والاشتراكية الشيوعية وغيرها من الذواكر الوهمية.
تعود تلك الذاكرة أو "اجترار الذات"؛ حسب الدراسات العلمية الحديثة إلى ما يسمى بـ"اللدونة الدماغية" التي تقع تحت أي تأثير خارجي، وتتأثر بالأحداث السلبية أكثر من تأثرها بالأحداث الإيجابية، وقد تحوّل الأحداث السلبية إلى وهمٍ إيجابي، لتبقى تلك الذاكرة محتفظة بذلك الحدث، وهذا الفعل للذاكرة غير الصريحة هو فعل غير واعٍ، وغير إراديّ، وغير عقلانيّ، فاجترار الموروث الثقافي والاجتماعي والديني والسياسي، يحبس المجتمعات في بوتقة صلبة، ويصير في داخلها ذاكرة جمعية وتقليداً سائداً، لا بل يصبح نظاماً عاماً وقانوناً لا يُسمح للأفراد بتجاوزه أو تعديله.

اقرأ أيضاً: هل نجح علم الاجتماع حقاً في تغيير المجتمعات؟
لا نستطيع أن نصف اجترار الذات على أنّه مرضٌ نفسي، لكننا نستطيع أن نقول إنّه قصور في الوعي الذاتي، ونقص في المعرفة، لدى المجتمعات التي اعتادت أن تعيش في الماضي بدلاً من الحاضر، وبدلاً من النظر إلى المستقبل على ضوء التقدم والحداثة. لا نريد القول إنّه يجب على المجتمعات أن تقطع مع الماضي، أو أن تفقد ذاكرتها، أو أن تتخلى عن ثقافتها وقيمها، بل نريد أن نلفت النظر إلى أنّ الذاكرة الضرورية للمعرفة قد تصير عقبة في طريق تجديد المعرفة، وتجديد الثقافة.

اقرأ أيضاً: هل نستطيع أن نكون سعداء حقاً؟
لكل مجتمع من المجتمعات ذاكرة وتاريخ وهوية، ولا بد أن يلتفت إلى الماضي، لربط أحداثه بالحاضر، واستشراف المستقبل، كل حاضر جديد هو إعادة تركيز لصورة الماضي، فالنظرة الاسترجاعية تقوم دوماً باستشراف المستقبل، "يكتسب الماضي معناه انطلاقاً من النظرة البَعدية التي تمنحه معنى التاريخ، وذاك هو مصدر التبرير الدائم واللاشعوري الذي يدرج المصادفات تحت غطاء الضرورات، ويحوّل اللامتوقع إلى أمر قابل للوقوع، ويقضي على الممكن الذي لم يتحقق لصالح حتمية حصول ما حدث"، حسب تعبير إدغار موران، في كتابه إلى "أين يسير العالم".

لم تكن المجتمعات الحديثة والمتقدمة يوماً دون ذاكرة لكنها لا تسعى إلى الارتباط بالماضي ارتباطاً كلياً

فالماضي والحاضر والمستقبل مركَّب تمتد أواصره عبر هذه القنوات الثلاث بالتفاعل والتبادل والامتداد، فالممكنات المعرفية والأخلاقية لدى الأفراد ونشاطهم/ـن الفكري، تستطيع أن تخلق عالماً جديداً، بعيداً عن اجترار الماضي وفرضه في الحاضر كما كان بالتمام والكمال، فإنّ هذا الاجترار هو ما يسهم في صناعة التطرف والتعصب الاجتماعي والديني والسياسي والثقافي، وفي تبرير السلطات الاستبدادية بمنظومة من أمثال تجترها الذاكرة الجمعية والذهن الجمعي والثقافة الجمعية، "العين لا تقابل المخرز"، الانصياع إلى الظلم هو من أوجد "المخرز" ومنحه حق الدخول في العين بسلاسة، كما أنّ المجتمعات المتخلفة ينتابها الشعور بالكمال منذ أن ناضلت من أجل استقلالها عن الاستعمار، وما زالت حتى وقتنا الحالي تتغنى بتراثها المجيد وبطولاتها ومآثرها، لكنها في الحقيقة تحررت من الاستعمار واستلت سيف الماضي لتحارب به التقدم الحضاري والحداثة.
لم تكن المجتمعات الحديثة والمتقدمة في يوم من الأيام من دون ذاكرة، لكنها لا تسعى إلى الارتباط بالماضي ارتباطاً كلياً، إنّما تسعى للتمايز المتصاعد بين الثقافات وليس بالتدجين والتجانس المستمر فيما بينها، كما تسعى تلك المجتمعات باستمرار إلى إدراك ذاتها وتطويرها باستمرار.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية