ينطبق قول الشاعر "إن المصائب يجمعن المصابينا" على واقع المواطن العربيّ، الذي يُحرّكه من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب وجَعٌ وأملٌ واحد، ويشغله سؤال لا يتغير متى تُحلّ مشكلاتنا؟ ومتى تقلّ مصائبنا؟ ومتى ينتهي ضعفنا؟ انتفاضةٌ تُسلمّنا لانتفاضة، وسيلتها دوماً التظاهر والاعتصام والصمود والسعي لامتلاك الساحات في إشارة رمزية لإسقاط مختلف أشكال التسلّط والتعنت، وبدايتها شرارة، فكما كان حادث إحراق محمد بوعزيزي نفسه في تونس، ومقتل خالد سعيد في مصر الشرارة التي أشعلت الأحداث، وأطلقت ثورة شعبية أطاحت بالنظام الحاكم في تونس ومصر، كانت فكرة وزير الاتصالات اللبناني "محمد شقير" أن تُوضع رسوم على تخابر "الواتساب" الشرارة التي أشعلت الانتفاضة اللبنانية.
اقرأ أيضاً: حازم صاغية: خداع حزب الله فجّر الغضب الشيعي في لبنان
تلك الانتفاضة التي نظر إليها "حزب الله" بارتيابٍ واصفاً إياها بحراكِ لا يرقى إلى وصفه بالانتفاضة أو الثورة، فلم يستوقف "حزب الله" مشروعية الوسيلة، ولا صدق الدافع لكنّه كعادة الحركات الدينية في عالمنا العربي التي تُفسِّر كلّ إخفاق بنظرية المؤامرة، وفِعل المندسين، في محاولة من الحزب لإعفاء الذات من تحمّل المسؤولية؛ وكأنّه ليس الشريك الأقوى في حكومة سعد الحريري المستقيلة، وأخذ يُلقي بالتبعة كاملة على آخر متآمر مستشهداً عشرات المرات عبر وسائله الإعلامية بكتاب "جون بيركنز" "اعترافات قاتل اقتصادي".
الانتفاضة اللبنانية نظر إليها "حزب الله" بارتياب واصفاً إياها بحراك لا يرقى إلى وصفه بالانتفاضة أو الثورة
وكعادة الجماعات والميليشيات الدينية في أن تُغذّي شعوراً سلبياً لدى الشعوب يدفعها إلى الاستكانة والانصياع، أخذ حزب الله يُؤكد أنّ ثمّة مؤامرة كونية تُدبّر ليل نهار للنيل من لبنان بما يقتضي من الشعب اللبناني أن يصطفّ خلفه، وأن يُؤجّل حقوقه المشروعة إلى ما لا نهاية؛ فلا أمل في أن تنتهي تلك الحالة من التعبئةِ لحربٍ لن تضع أوزارها.
والواقع أنّ الميليشيات والجماعات الدينية لو تخلّت عن أفكار المظلومية ونظرية المؤامرة التي تلجأ إليهما تارة، والنرجسية والاستعلاء التي تلجأ إليهما تارة أخرى؛ لأدركت أنّ انتفاضة الشعوب ضد الأنظمة الحاكمة بسبب تردّي الأوضاع الاقتصادية حتمية تاريخية، أشار إليها منذ عدة قرون ابن خلدون مُؤسس فلسفة التاريخ والاجتماع، رافضاً فكرة المؤامرة أو التفسير الديني لحوادث التاريخ، تلك الفكرة الأصيلة التي تُشكّل وجدان وعقل جماعات التمايز الديني، وتستند إليها في تفسير الأزمات، فترى أنّ مشاكلنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية عقاب إلهي ينتهي فور العودة إلى الله.
اقرأ أيضاً: "حزب الله" في عين العاصفة
هذه العبارة رغم تداولها حتى تبدو مسلَّمة من المسلَّمات إلا أنّها في الواقع لا تخلو من تسطيحٍ لقضية معقّدة، وهروب من تبعات المسؤولية المُلقاة على عاتق الإنسان تجاه تغيير واقعه بإلقاء تبعية الأمر على الله، كما أنّ هذا يناقض الواقع حيث جعل الله الإنسان مؤمناً أو غير مؤمن على خطّ واحد في علاقتهم بالكون، فمن يمتلك أن يُغيّر ويُطوّر من واقعه يمنحه الله التقدم والتطوّر، إنّ مشاكلنا أكثر تعقيداً من أن تُختزل في ضعف الجانب الإيماني الذي لا نُقلل من أهميته في تعزيز الأخلاق والرقابة الذاتية، إلا أنّنا أمام إشكاليات بالغة التعقيد انتهت بنا إلى هذا الواقع العربي المتردي.
اقرأ أيضاً: عندما يهبّ "حزب الله" لإنقاذ عهده
فالأزمات في نظر ابن خلدون ليست من آثار المصادفات، أو من دلائل النقمة السماوية، بل إنّها خاضعة لقوانين طبيعة عامة، ويمكن تعليلها كنتيجة حتمية وظاهرة لا مناص منها في مجرى التطور التاريخي؛ فالبشر في جميع أحوالهم لا يخرجون عن نظام الكون العام، فهم خاضعون في تطورهم التاريخي لنواميس الطبيعة الأبدية التي لا تُفرق بين حوادث الطبيعة الخارجية وبين وقائع التاريخ. فـ"الهِرَم في الدولة مثلاً من الأمور الطبيعية لا يمكن ارتفاعه؛ لأن أمور الطبيعة لا تتبدل"، حتى الأنبياء في دعوتهم لم يخرجوا عن قانون الطبيعة وقواعد الاجتماع في عصورهم، على حدّ قوله: "هكذا حال الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، في دعوتهم إلى الله تعالى بالعشائر والعصائب، وهم المؤيدون من الله تعالى بالكون كلّه لو شاء، لكنه إنما جرْي الأمور على مستقرّ العادة".
الأزمات في نظر ابن خلدون ليست مصادفة أو من دلائل النقمة السماوية بل خاضعة لقوانين طبيعة عامة
والعادة في حركة الاجتماع فإنّ الحياة الاقتصادية هي العامل الحقيقي المؤثر في تكييف حياة البشر، على حدّ قول ابن خلدون: "إنّ اختلاف الأجيال في أحوالهم إنّما هو باختلاف نحلتهم من المعاش"، أيّ إنّ تطور الأوضاع الاجتماعية والتاريخية تابع لتبدّل الشروط في الحياة الاقتصادية؛ فالأزمات السياسية والاجتماعية والفكرية بل والدينية ليست سوى نتائج طبيعية للواقع الاقتصادي المتأزم الذي يُعاني منه المواطن.
فمن أكبر العماية ألا يُريد المبصر أن يرى هذا الواقع، ومن أكبر الصمم ألا يستمع الحزب إلى الأصوات القادمة من كلّ الساحات من الشمال إلى الجنوب ومن بيروت إلى الجبل والبقاع، فالسياسي البارع هو الذي يسبق شعبه ويتحرك، وكأنّ بصيرته هي التجارب التي حدثتْ، وكأنّ أحلامه هي حقائق الحياة التي تتوالى.
كلّ أزمة تحمل بداخلها "خطراً" يُحتمَلُ تصاعده، كما تحمل "فرصةً" في الوقت نفسه يُمكن، بسرعة اتخاذ القرار، أن تُطوّع اتجاهات الأزمة لإيجاد حلّ؛ فالانتفاضات الشعبية ضد مؤسسات الحكم ليس من الضرورة أن يُحطّم أحدهما الآخر، كلياً أو جزئياً، فتحطيم الإرادات في ظل الواقع اللبناني المعقّد أمر مستحيل، فغاية الانتفاضة اللبنانية هو تليين الإرادات لا تحطيمها حتى تنتهي في كغيرها من الانتفاضات العربية إلى نقطة بين الهزيمة والانتصار أو مزيج من الانتصارات والهزائم، لتتخذ منها نقطة لانطلاقة ثانية؛ فلن تهدأ الانتفاضات العربية وستتجدد الواحدة تلو الأخرى؛ فالشعوب تتعلم بالتجارب كيف تصنع ثوراتها ضد الفساد.