تطوّق النظام الإيراني العديد من المشكلات الداخلية وتعقيداتها، في ظل تفاقم الأزمة الاقتصادية وتداعياتها على المجتمع، الذي يشهد تصاعد وتيرة الغضب والاحتجاجات الشعبية في ثمانين مدينة ومحافظة إيرانية، ما يعكس تراجعاً في شعبية النظام وتهديد شرعيته ورفض سياساته.
وطالت الاحتجاجات، للمرة الأولى، النخب الدينية والسياسية والمرشد الأعلى علي خامنئي، بالإضافة إلى اتهام المسؤولين بالحكومة في عدة قضايا فساد تسببت في ارتفاع معدلات البطالة والتضخم، والانهيار الحاد في أسعار صرف الريال الإيراني أمام الدولار الذي سجل 150 ألف ريال، بحسب موقع "بازار 360" المصرفي.
الغضب من النخب الدينية والسياسية بدا ملاحظاً بدقة ضد سياسات الملالي لا سيما في شعارات وهتافات الجماهير
المحرك الرئيسي للاحتجاجات فجرته الحالة الاقتصادية المهملة التي تفرض بتأزماتها الاجتماعية، واقعاً صعباً على مناحي الحياة كافة؛ يمكن رصده في عدم تلبية وتوفير احتياجات المواطنين اليومية من السلع الأساسية، وتراجع قدراتهم الشرائية، وخفض الرواتب، والنقص الحاد في الأدوية المحلية، كما صرح الناطق باسم وزارة الصحة الإيرانية، ايرج حريرتشي. يضاف إلى ذلك الحالة الحقوقية التي تتجمع في قلب تلك الاحتجاجات وهامشها؛ كخلع الحجاب، والمطالبة بتحسين أوضاع الأقليات القومية والدينية، ما يفصح، في المقابل، عن خلخلة في بنية النظام الاجتماعي الذي يحتمي به الولي الفقيه، وحدوث ضمور شديد في حاضنته الشعبية.
إطاحة عمامة الولي الفقيه
الغضب من النخب الدينية والسياسية بدا ملاحظاً بدقة ضد سياسات الملالي، لا سيما في شعارات وهتافات الجماهير التي نددت من خلالها بالتدخلات العسكرية الخارجية، في سوريا والعراق واليمن، وإهدار أموال الشعب في النفقات العسكرية الضخمة، على حساب الإصلاح الاقتصادي.
في نهاية العام الماضي بلغ عدد القوات الإيرانية في سوريا نحو 70 ألفاً، من بينهم 15 ألفاً، فقط، تابعون مباشرة إلى الحرس الثوري الإيراني، بحسب تقديرات المعارضة الإيرانية. وفيما يخص الإنفاق الإيراني في سوريا، فإنّ الأمم المتحدة رجحت أنّ الرقم قد وصل إلى 6 مليارات دولار سنوياً.
ومن جهة أخرى، يشير موقع "دويتشة فيلة" الألماني إلى أنّ إجمالي النفقات الإيرانية، من جراء التدخل العسكري، في سوريا والعراق واليمن ولبنان، يقدر بنحو 350 مليار دولار.
اقرأ أيضاً: كيف تتحايل طهران على العقوبات الأمريكية؟
الرئيس الإيراني حسن روحاني، واجه، في جلسة برلمانية مؤخراً، عدداً من الاستجوابات التي طرحها عليه النواب، وذلك، للمرة الأولى، منذ وصوله للحكم، قبل خمسة أعوام، وتتعلق بمجموعة من القضايا؛ تخص واقع البطالة، والعملة الأجنبية، والركود، والتهريب، التي تسببت جميعها في حالة معيشية صعبة وطاحنة أدت لاستمرار الاحتجاجات، بينما قرر البرلمان رفع تلك التساؤلات التي أجاب عنها روحاني إلى السلطة القضائية، للبت فيها، قبل تجميد الأمر، حسبما أفادت وكالة أنباء فارس الإيرانية، قبل أيام، لتنغلق أعنف مواجهة بين السلطتين؛ التشريعية والتنفيذية في الجمهورية الإسلامية، بعد أن جاءت نتائج التصويت في جلسة الاستجواب، بخلاف قناعات النواب.
جنود القتل والنهب
وفي المقابل، لم تستثن مؤسسات الحرس الثوري الاقتصادية وتبعيتها للمرشد، من الاتهامات والشكوك، خاصة، فيما يتصل بقبضتها العنيفة على الاقتصاد الإيراني، الذي تطوعه لمصالحها وأهدافها الإستراتيجية، بالإضافة إلى عدم الشفافية الواضحة حول أنشطتها التجارية، وانفلاتها من المراقبة القانونية والدستورية؛ ومن بينها، مؤسسة "خاتم الأنبياء"، التي تمتلك ما لا يقل عن 300 شركة، تعمل في مجالات النفط والغاز والصناعة والتعدين.
وبحسب التقرير الشهري للمعهد الدولي للدراسات الإيرانية، فإنّ روحاني، الذي سبق وأعلن في حزيران (يونيو) 2017، أنّ الحرس الثوري مسؤول عن انهيار الاقتصاد الوطني، قال: "لقد سلمنا جزءاً من الاقتصاد الذي كان في يد دولة بلا بندقية، لدولة تحمل البنادق، وأنّ تلك الحكومة التي تملك البندقية، تمتلك أيضاً وسائل الإعلام وكل شيء، ولا أحد يجرؤ على منافستها"، قد خالف تصريحاته التي تضمن له قاعدته الشعبية، والتزم الصمت عن تجاوزات الحرس الثوري، ومؤسساته الاقتصادية، وتجاهل تصريحاته السابقة، وعبّر عن ولائه التام للمرشد الأعلى، في جلسته الأخيرة بالبرلمان، وقال: " يجب أن أوضح للشعب أننا سوف نعبر هذه الأزمات، بحول وقوة الله، وتوجيهات المرشد، وتعاون السلطات الثلاث والقوات المسلحة".
اقرأ أيضاً: العقوبات الأمريكية على إيران تدخل حيّز التنفيذ... فما طبيعتها وكيف ستنفّذ؟
من ناحيتها، عبرت النائبة البرلمانية، بروانه سلحشوري، عن استيائها الشديد، تجاه الوضعين؛ السياسي والاجتماعي، اللذين تعاني منهما البلاد، وانتقدت غياب الرقابة والشفافية، حول ما وصفته بـ"أهلية بعض المرشحين في البرلمان، من قبل مجلس صيانة الدستور، والذي يشكل حاجزاً في اختيار الشعب لمن يمثلهم"، بحسب توصيفها.
هل تتواطأ الحكومة على الفساد؟
حالة الارتباك الشديد الذي يكاد يتحكم في مفاصل دوائر الحكم في إيران، تعكس تناقضات عديدة بينهم، فيما يتصل بالصورة الكلية، للتعاطي مع الواقع المحلي وإدارة الملف الاقتصادي، من ناحية، ومواجهة الضغوطات الأمريكية، من ناحية أخرى، خاصة بعد الانسحاب من الاتفاق النووي.
وهو ما يمكن توصيفه بدقة، ليس في موقف البرلمان المتردد، من روحاني، وتراجع الأخير، ذاته، عن مضمون تصريحاته السابقة، فقط، بل تكرار الصور بنفس عناصرها، وتقاسم عناصرها المشتركة، عندما قرر 29 برلمانياً التوقيع على مذكرة، بهدف سحب الثقة، من وزير التعليم، محمد بطحائي، ثم ما لبثوا أن سحبوها، فقرر البرلمان إلغاء الجلسة التصويتية، قبل يومين.
على إثر دخول العقوبات الأمريكية حيز التنفيذ، في السادس من آب (أغسطس) الماضي، والتي شرعت إدارة ترامب، مواجهة إيران بها، من خلال حصارها اقتصادياً، وكبح نفوذها الإقليمي، حيث شملت العقوبات، مشتريات إيران من الدولار الأمريكي؛ كتجارة المعادن والسيارات، يمكن اعتبار الشق الأولى من تلك السياسة قد اكتمل، ما أدى إلى "تسونامي" في العملة المحلية التي انهارت واتسعت شقة أسعار صرفها العالية في مقابل الدولار.
بيد أنّ الشق الثاني في سياسة العقوبات الأمريكية، الذي من المنتظر البدء فيه، في الرابع من تشرين الثاني (نوفمبر)، المقبل، فيشمل عقوبات على مشتريات النفط الخام الإيراني، ما سيساهم في رفع حدة الأزمة الاقتصادية الداخلية، بصورة بالغة.
كيف تواجه إيران الحصار الاقتصادي؟
تتوجه إيران نحو البحث عن شراكة إقليمية جديدة، تتوسل من خلالها كل الطرائق والحيل، لمواجهة حزمة العقوبات الثانية، وهو ما سعت إليه، فعلياً، عبر رفع مستوى علاقاتها مع تركيا وقطر، وزيادة التبادل التجاري والنشاط السياسي، والتي كانت قد بدأت بفتح قنوات تواصل عملياً معهما، منذ المقاطعة الخليجية، العام 2017.
كما تنشط إيران، مؤخراً، مع بعض الدول التي تتماس مع حدودها، وقريبة من جغرافيتها، مثل؛ باكستان ودول بحر قزوين، والأخيرة، تبحث في مياهها الدافئة عن فرص لتفادي تداعيات الحصار الاقتصادي والضغوطات الأمريكية.
تحركت السياسة الخارجية الإيرانية، في نهاية شهر آب (أغسطس) الماضي، باتجاه باكستان، بعد أن دعمت وصول عمر خان إلى رئاسة الحكومة الباكستانية، إذ التقى به وزير الخارجية محمد جواد ظريف في إسلام أباد، وبحثا فرص التعاون الممكنة بينهما، في المجالات التي من المحتمل أن تتعرض لتأثيرات مباشرة، على خلفية العقوبات الأمريكية، وإيجاد بديل لها، مثل التعاملات المصرفية، ومشروعات نقل الطاقة من إيران إلى باكستان، خاصة، الغاز، والمشاركة في تطوير الموانئ.
سياسة "حافة الهاوية"
خلال الشهر ذاته، انعقدت قمة خماسية في كازاخستان، أسفرت عن اتفاقية مع إيران، تقضي بأن تكون المنطقة الرئيسة لسطح بحر قزوين، متاحة للاستخدام المشترك بين البلدين، وتقسيم الطبقات السفلية إلى أقسام متجاورة بالاتفاق بين الدول الخمس، على أساس القانون الدولي، وتفرض الاتفاقية قراراً لا يسمح بوجود قوات عسكرية، لقوى أجنبية، دولية أو إقليمية في البحر.
اقرأ أيضاً: الميليشيات الإيرانية تشد الأحزمة حول العراق
ويشير الدكتور محمود أبو القاسم، الباحث في الشأن الإيراني، إلى أنه رغم ما قد يعد نجاحاً من جانب إيران، فيما يتعلق بجذب مواقف عدد من القوى إليها، لكن قد ينجح ترامب فى إثناء هذه الدول عن مواقفها، "لأنّ هذه الدول فى النهاية، قد لا تضحي بمصالحها الواسعة مع الولايات المتحدة، من أجل مصالحها المحدودة مع إيران، فضلاً عن أنّ دوائر الحركة الإيرانية خارجياً محدودة، وهو الأمر الذي قد يفشل كل المحاولات الإيرانية، لتفادي تأثير العقوبات إلى المدى الذي يجبرها على الاستسلام والإذعان للشروط الأمريكية".
تحركت السياسة الخارجية الإيرانية باتجاه باكستان بعد أن دعمت وصول عمر خان إلى رئاسة الحكومة الباكستانية
ويوضح لـ "حفريات": "لذلك مع استعادة أول حزم العقوبات الأمريكية، وحتى قبل أن تدخل حيز التنفيذ، بدأت الشركات الكبرى تخرج من السوق الإيراني، بالرغم من مواقف البلدان التى تنتمي إليها، وتؤيد استمرار الشراكة مع إيران، كشركة توتال الفرنسية، وغيرها من الشركات التى تستثمر في قطاع الطاقة في إيران، كما بدأت بوادر الازمة الاقتصادية تظهر على السوق الإيراني".
اقرأ أيضاً: روحاني ضحية العزلة الداخلية والعقوبات الأمريكية
وفيما يخص علاقة إيران بدول جوارها الإقليمي في مواجهة الأزمة، يؤكد أبو القاسم أنّ طهران "لن يمكنها مواجهة العقوبات، بصورة كلية؛ لأن دخول حزمة العقوبات الثانية، في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، والتي تخص قطاع النفط وإمكانية وصول إيران، إلى سوق المال الدولي، ستدفع هذه الدول لمراجعة مواقفها، وأقصى ما يمكن أن تقوم به إيران مع تلك الدول، هو تهريب نفطها عبر حدود تلك الدول، وهذا لن يحل الأزمة الاقتصادية الداخلية المتفاقمة بأبعادها كافة".
وفي تقدير الباحث بالشأن الإيراني، فإنّ أهم ما في الأمر، هو أنّ الولايات المتحدة والنظام الإيراني، لن يفشلا في الوصول إلى صيغة ما في مرحلة ما، تحفظ للطرفين مصالحهما؛ "فلا إدارة ترامب تريد أن يسقط النظام في إيران، حيث إنّ أقصى أهدافها هو درء تهديد إيران لإسرائيل، قرب حدودها، وتعديل سلوكها في المنطقة، بالإضافة إلى تأكيد إنهاء التهديد النووي، كما أنّ النظام الإيراني لديه الاستعداد لتصعيد يصل حد تهديد بقائه، ومن ثم، فإنّ الطرفين يتبعان سياسة حافة الهاوية".