إعصار الجوع!

إعصار الجوع!


31/03/2022

عزالدين سعيد الأصبحي

يتجنب العالم تسمية الحرب القائمة في أوروبا بحرب عالمية، ويصر على حصرها بالنزاع الروسي الأوكراني، بينما تجاوزت تأثيراتها القارة العجوز، إلى كل العالم المتهالك، فكل بيت يبحث عن ذرة طحين، أو سائق عربة تنتظر في طابور الوقود في أفريقيا أو أوروبا وآسيا، يدرك أن رياح الحرب هناك تعصف بقوته هنا.

وإذا لم تكن إجراءات أميركا ودول أوروبا وغيرها لإخراج روسيا، ومعها بطبيعة الحال إخراج أكبر مساحة لدولة في العالم من نظام التعامل المالي، وخلق حصار وحرب اقتصادية وثقافية وإعلامية لم تسلم منها رفوف كتب تعرض أدب تولستوي وديستويفيسكي، في حرب تمتد من نجوم المجرة إلى نجوم هوليوود، إذا لم يكن كل ذلك حرباً عالمية فماذا تُسمى إذاً؟

ولكن ما تبقى فعلياً هو ضبط النفس من اندلاع صدام عسكرى نووي، ويبدو أنه احتمال بعيد، فذاك دوماً سلاح ردع لا يستخدم! ولذا، وأياً تكن في هذا الكوكب فسترى نفسك مهموماً بهذه الحرب، حتى وأنت مثلي الآن، تنتظر رحلة إلى أقصى اليمن وهو بلد غارق في الحرب، يسأل أهله عما يجرى في أوكرانيا وروسيا، أكثر من السؤال عما يجرى في جبهات قتال دامية يعانيها. وذلك ليس تعصباً لقطب دولي بقدر ما يفرضه خوف انعدام الطحين والقمح.

نعم هى حرب الطحين التي ستسحق ملايين البشر في العالم، لذا تفرض الحرب القائمة نفسها عليك، مهما تكن بعيداً من السياسة، فقد طالت ألسنتها كل مستويات الحياة على المستوى العالمي، من الصدام العسكرى إلى لقمة العيش، وقُدّر للأزمة الروسية الأوكرانية أن تدخل كل بيت، وليس بالضرورة أن تُلقى علينا قذيقة مدفع مباشرة، حتى نشعر بلهيب الحرب، بل تحاصرنا جوانب الصور المختلفة لهذه الحرب، وتجعل المرء في قلب الحدث والهلع.

فهذا النظام المالي الذي يكمل حصاره يحد شفرته ليطبق على العالم أنفاسه نهائياً، أو قد يشهد بدء انهياره على يد المارد الصيني، وهناك معارك عجيبة ابتداءً من أسعار النفط والغاز وانتهاءً بحرب الشحن البحري والسيطرة على حاويات النقل، ولكن الأخطر أن تأثيرات الحرب تطال لقمة العيش في معظم دول العالم. وبحسب حديث للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، أن ما يجرى هو إعصار للجوع وانهيار لنظام الغذاء العالمي.

وللأسف، فإن ذلك الإعصار سيضرب أولاً الشعوب الأشد فقراً ويزرع بذور عدم الاستقرار السياسى والاضطرابات في جميع أنحاء العالم. فهناك على الأقل 45 دولة من الدول الأفريقية والأقل نمواً تستورد ما لا يقل عن ثلث قمحها من أوكرانيا أو روسيا –18 من هذه البلدان تستورد 50 في المئة على الأقل، بينها ست دول عربية.

وأمام هذا الانهيار العالمي، تسارع القوى العظمى لخلق فرز جديد للدول، وتقسيم لا يقود إلى سلام بل يصنع خناقاً قاتلاً على مستوى العالم. والقول إن المواجهات العسكرية الاستراتيجيه لن تصل إلى استخدام قنابل نووية، يبقى هو المأمول عند معظم الدول، ولكن إعصار الجوع كافر وقاتل أيضاً.

كما أن العالم لم يعد يحتمل المزيد من الانهيار ولا يقبل ريح العنصرية العاتية ولا خطاب الكراهية التي تفجرت تفجراً قبيحاً في وجه العالم أجمع، فقد جاءت المواجهة الأوروبية الأوروبية للكشف عن أسوأ ما في قناع الإنسانية ونظم أوروبا، الأمر الذي يجعل معظم العالم على يقين من أن حرب أوكرانيا تأتي بعد حرب كورونا لتعزز ضرورة وجود مسار جديد لتشكيل عالم آخر في كل شيء، ابتداءً من تغيير موازين القوى وخلق جغرافيا سياسية جديدة، وانتهاءً بإحداث تعديل جذري في النظام المالي العالمي، وكذا في كل آليات عمل المنظمات الدولية، وصولاً إلى تطوير قيم الإنسان نفسه. وهذا يجري الآن على مستوى تعامل النظام المصرفي، واحتكار التكنولوجيا، وقوانين التنقل، وصولاً إلى نظم الحماية الاقتصادية والاجتماعية.

نعم ما يجري يجعل الدول كلها تراجع حساباتها على مستوى العلاقات الدولية والمصالح، وتراجع علاقاتها بمجتمعاتها أيضاً في إعادة خطابات سياسية أخرى.

ويبقى السؤال الذي لا يغادر ذهني: أين نحن كوطن عربي من كل ذلك؟ فقد شاء القدر أن يكون هذا الوطن الممتد على رقعة جغرافية من أقصى المغرب حتى أقصى اليمن بمساحة تزيد على 14 مليون كلم، وبكتلة سكانية تتجاوز الأربعمئة مليون نسمة، ويشرف على أبرز الممرات المائية من باب المندب إلى مضيق جبل طارق، وتحت أرضه وشمسه ثروة تعيد توازن الكرة الأرضية، أين هو مما يجري؟ وكيف له أن يكون صانع ألعاب؟ فما يجري حتى اللحظة هو محاولات جادة لاستقطابات فردية تريد إدخال دول المنطقة في زوايا الحرب الصعبة، بينما أمامنا فرصة لأن نعيد الاعتبار لتاريخ فقدناه وجغرافيا نوشك على فقدانها لنكون رقم التوازن، وتكون دول المنطقة العربية هى الملاذ الآمن لعالم مضطرب.

أقول ذلك وأنا أتابع لقاءات أوروبية مختلفة ترى مناطقها مضطربة أكثر مما نتوقع، وأكثر ضياعاً من أي وقت مضى. وفي كل لقاء لا يفارقني سؤال بسيط هو فقط كيف لا نجعل دولنا عكازاً للدول العملاقة المترنحة كلها، والتي تريد جميعها أن تستند إليك لتقف هي لا أكثر.

عن "النهار" العربي



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية