إعاقة: نظرة من الداخل

إعاقة: نظرة من الداخل


06/12/2021

أستيقظ من النّوم فأمسك بطرف السّرير لأتمكّن من الجلوس. أضع حول ساقي اليسرى ما أسمّيه (جهازاً) ويسمّونه طبّيّاً (تركيبات تقويميّة) لمساعدتي على الوقوف. كنت أقلّ من ستّ سنوات بأشهر عندما لبست أول جهاز وخطوت أولى خطواتي، والتي كانت بين أريكتين متقابلتين في منزلنا القديم في مدينة الأحساء في السعودية حيث كان يعمل أبي. لم يفهم أخي الأصغر فراس ذو السّنوات الأربع حينها سبب الهدايا التي انهالت عليّ لأنّني مشيت، وهو الّذي كان يملأ البيت مشياً وجرياً وقفزاً دون أن يلقي له أحد بالاً!

أُمسك عكّازة بيدي اليمنى وأدفع بجسمي للأمام متّكئاً باليسرى على السّرير لأنهض. لم تمض أيّام بعد أن بدأت المشي حتّى أدركت، بل أدرك أهلي، أنّني بحاجة لعكّازة من أجل تفادي السّقوط المتكرّر الذي عانيت منه في أيّام الدراسة الأولى. كان ذلك في عام 1980، وكانت مسؤوليّة الاعتناء بي من لحظة مغادرتي لسيّارة أبي في الصّباح وحتّى عودتي لها بعد نهاية اليوم المدرسيّ موكلة لفراس. فبالإضافة إلى حمل حقيبتي، كان على ذلك الطّفل الأسمر الصّغير أن يزاحم الأولاد ليأتي لي وله من المقصف بشطيرة أو عصير، وأن يحتمل اتّكائي على كتفه الأيمن أثناء المشي، والأهمّ من ذلك: أن يحميني من الأولاد الذين كانوا يدفعونني على الأرض ليلهوا قليلاً بعكّازتي، وغالباً ما كان يستردّها بعد عراك صغير يتلقّى فيه ضربة أو أكثر، ثمّ يساعدني على النّهوض. المشكلة أنّ فراس كان الطفل الأصغر في المدرسة كلّها كونه اضطرّ لدخول المدرسة قبل أن يتمّ عامه الخامس بثلاثة أشهر، لا لشيء إلّا لأنّني أتممت أنا السادسة.  إذاً عكّازتي الأولى كانت خشبيّة: تلك الّتي تصل إلى الإبط. بسببها كانوا يسمّونني في المدرسة "سيلفر" كالقرصان الشّهير في قصّة "جزيرة الكنز"، والّتي بثتها معظم القنوات العربيّة في الثمانينيّات على شكل مسلسل كارتونيّ للأطفال. أذكر أنّي شعرت بشيء من الحزن عندما ودّعت عكّازتي الخشبيّة لآخر مرّة بعد أن بدأت في الرّابعة عشر استخدام النّوع الآخر من العكّازات، تلك الّتي تصل إلى المرفق والّتي ما زلت أستخدمها إلى اليوم.

أنا لا أحب جملة "فلان تغلّب على إعاقته"، فلا مناص من أن ينهش وحش الإعاقة الضّاري أجسادنا. كلّ ما في الأمر أنّنا نروّضه بصبر ونتعلّم مهارات وحِيَلاً جديدة

تعلّمت منذ طفولتي مهارة غسل وجهي بيد واحدة، حيث أرْكِز باليمنى على حافّة المغسلة، وأغسل وجهي وأبلّل شعري باليسرى. بالنّسبة لتوزيع الأدوار على اليدين، فالمعادلة سهلة: تتولّى اليمين المهامّ الّتي أقوم بها جالساً، كالكتابة مثلاً، واليسار ما أقوم به وقوفاً، كون اليمين محجوزة للعكازة، كفتح أبواب البيت والسيّارة والمكتب، وحمل أوراقي، ودفع النّقود، وتقليب الطّعام في القدر. هناك استثناء واحد وهو الأكل، فلم تفلح محاولات والديّ لثنيي عن الأكل والشّرب باليسرى لأنّهما ربما لاحظا أنّني منذ طفولتي أحافظ على اتّزاني وأنا جالس على الأرض لتناول الطّعام عبر الاستناد على يدي اليمنى. وعندما غزت طاولات الطّعام منازل العرب ومن بينها منزلنا، كان قد فات الأوان على تغيير هذه العادة. أما عندما يتطلّب الأمر استخدام يديّ الاثنتين لتزرير قميصٍ مثلاً، أو لرفع قدر الطّعام عن الفرن، أسند على شيءٍ لتحرير يدي اليمنى من العكّاز، كأن أتّكئ بظهري على الجدار، أو بخاصرتي على حافّة المغسلة أو المجلى.

اقرأ أيضاً: الإعاقة الحركية لا تمنع ممارسة الكاراتيه في غزة

لم أنتبه إلى أن سبب تفضيلي "الجينز" على بنطلونات القماش يعود إلى كرهي للأحذية الرّسمية، والتي تكون أقلّ مقاومة للانزلاق من نظيراتها الرياضيّة، وأضيق في القدم اليسرى حيث يوجد الجهاز. لا أذكر يوماً اضطررت فيه لارتداء بدلة رسمية إلّا وانتظرت العودة للبيت بفارغ الصّبر لأتحرّر منها ومن الحذاء اللّعين.

أصلاً مسألة شراء بنطلون مزعجة بالنّسبة لي لأنّها أوّلاً تذكّرني بخططي غير المكتملة، وهو توصيف منمّق لتفادي استخدام كلمة "الفاشلة"، لإنقاص وزني، وثانياً لأنّني لا أحبّ استخدام غرف القياس في المحلّات لضيقها وعدم وجود كرسيّ غالباً. حدث ذات مرة أن اشتريت بنطلوناً بدون قياس فوجدته ضيّقاً ولكنّي لم أقم بإرجاعه لأنّني قلت: ليكن هذا البنطلون الضيّق حافزاً لك لإنقاص وزنك.. على كلّ حال، ها هو ينتظرني وحيداً في الخزانة منذ خمس سنوات.

اقرأ أيضاً: رضا عبدالسلام: رحلتي إلى إذاعة القرآن الكريم بدأت بتحايلي على الإعاقة

بالعودة للكتابة، تمنّيت لو كنت أكتب باليسرى أثناء عملي كمحاضر كلّما اضطررت للتّخلي عن العكّاز للكتابة باليمنى على اللّوح أمام الطلبة. كان الحلّ للحفاظ على توازني في الإمساك باليسرى بالجزء المعدنيّ البارز في أسفل اللّوح حيث توضع الأقلام والممحاة. وكنت قد شعرت بهذه الأمنية أوّل مرّة عندما تعلّمت في طفولتي لعب تنس الطّاولة. كنت ألقي بالعكّاز تحت الطّاولة لأمسك بالمضرب. ولهذا، فقد سمح لي أصدقائي عدم الالتزام بكلّ قواعد اللّعبة، والّتي تمنع على اللّاعب لمس الطاولة. أزعم أنّ التصاقي بالطّاولة أثناء اللّعب حسّن من قدرتي على الاستجابة السريعة لأنّ الوقت الممنوح لي لردّ الكرة بالمضرب أقصر منه لو كنت مبتعداً عن الطاولة. لم يكن هذا هو الاستثناء الوحيد الذي حصلت عليه من أصدقاء طفولتي لأتمكّن من مشاركتهم اللّعب، فقد منحوني إعفاء من جمع كرات التنس، بل وسمحوا لي برمي الكرة باليد أثناء ضربات الجزاء الترجيحية في مباريات كرة القدم. حتّى الأهداف التي كنت أسجّلها بالعكّاز كانت "محسوبة".

الجميل بالأمر أنّ رفاقي لم يشعروا أنّهم كانوا يسدون لي معروفاً. هكذا مضت الأمور بشكل عاديّ دون أن ينتبه أحدٌ منهم لإعاقتي، ولا أنا.

ما زلت أذكر معاناتي في الصّعود إلى الدّور الثّاني للوصول إلى الصفّ (الرابع د) في مدرسة عقبة بن نافع في الأحساء، وكيف أنّ تسليتي الوحيدة كانت قراءة اللّوحات الإيضاحيّة على جانبي الدّرج حتّى حفظتها كلّها عن ظهر قلبٍ مع نهاية الفصل الدراسيّ، ومنها المثل المعروف: العقل السّليم في الجسم السّليم. أذكر أيضاً أنّه راودتني رغبةٌ مراراً في الاحتجاج لأستاذي على هذا المثل لأنّني شعرت بأنّه لا ينطبق عليّ، ثمّ تراجعت خوفاً من أن يوبّخني.

العقل السّليم في الجسم السّليم.. راودتني رغبةٌ مراراً في الاحتجاج لأستاذي على هذا المثل لأنّني شعرت بأنّه لا ينطبق عليّ، ثمّ تراجعت خوفاً من أن يوبّخني

إلّا أنّ أسوأ تجاربي مع درج المدارس كان في متوسّطة الجزيرة في الدّمام حين كان صفّي على الدّور الثالث، وهو ما استدعى أن يمنحني المدير إعفاء من الاصطفاف في طابور الصّباح حتى أبدأ بالصعود، وهو ما كنت أنهيه مع نهاية الطّابور. في ذلك العام، كان أخي فراس يأتيني بشيءٍ من المقصف في فترة الفُسحة حتّى لا أعاود ماراثون الصعود والنّزول، وكنت أكتفي بالإطلالة على فناء المدرسة الواسع من أعلى وهو يعجّ بحركة الأولاد وضجيجهم. لا أذكر اليوم إذا كان منظر الأولاد وهم يلعبون يشعرني بالحزن أو الوحدة حينئذ، ولكنّني أذكر تماماً كيف كنت أبتكر وسائل لتعويض خسارتي للفسحة، بأن أتخيّل أنّني ألقي خطاب النصر وتحرير فلسطين على الجماهير الحاشدة من شرفةٍ عاليةٍ. هكذا عشت دور القائد المظفّر دون أن يدري بي أحد.

لم يتحسّن الأمر كثيراً في الجامعة في الأردن، يكفي أنّه كان عليّ صعود وهبوط جسرٍ شاهقٍ للمشاة في طريق عودتي من كليّة عمّان الجامعيّة للهندسة التطبيقيّة. وبسبب ذلك الجسر سيّء الطّلاء، كنت أتفادى حمل كتبي وأحياناً دفاتري إلى الجامعة، وأكتفي بأن أطلب من أحد زملائي أن يمزع لي صفحة من دفتره لأكتب عليها في المحاضرة. وفي الأيّام الّتي كنت أحمل فيها أوراقاً أو دفتراً معي، كان يساعدني في حملها أثناء صعودي الجسر من تيسّر من أصدقاء.

هذا غيض من فيض تفاصيل صغيرة أتحايل عبرها على تبعات إعاقتي في زحمة روتين الحياة، والأكثر منها أوجه اختلاف هذه المناورات من شخص لآخر ومن إعاقة لأخرى، ولكن ما قد يجمعنا هو أننا خبراء في اقتصاد الجسد، على اعتبار أنّ من تعريفات الاقتصاد الكثيرة أنه "إدارة الموارد الشحيحة".

وأترككم مع اعتراف صغير: أنا لا أحب جملة "فلان تغلّب على إعاقته"، فلا مناص من أن ينهش وحش الإعاقة الضّاري أجسادنا كلّ يوم. كلّ ما في الأمر أنّنا نروّضه بصبر ونتعلّم مع الوقت مهارات وحِيَلاً جديدة للتعايش معه للتخفيف قليلاً من وطأة هزيمة تشبه النصر.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية