ترجمة: محمد الدخاخني
ما الّذي يُمكن فعله بخصوص الإسلام في فرنسا؟ بالنّظر إلى الهجمات الإرهابيّة الإسلامويّة والتّشرنق الطّائفيّ والتّلاعب الدّوليّ بالمجتمعات الإسلاميّة، فإنّ المسألة تبدو ملحّة. لكن الأمر مثير جَدَلِيّ؛ لأنّ عمليّة إدارة الإسلام تبدو متعارضة مع كلٍّ من الّلائكيّة، الصّيغة الفرنسيّة الرّاسخة لعلمانيّة الدّولة، وقانون 1905 الّذي ينصّ على الفصل بين الكنيسة والدّولة.
تفضّل فرنسا،الهجرة المُفلترَة، فهي تجلب الأئمة من الخارج، ومعظمهم من البلدان الأصليّة لمجتمعات المهاجرين الرّئيسة
ألا تُعدّ مراجعة ذاك القانون اعترافاً بأنّ العلمانيّة تنحني للإسلامويّة؟ ومن ناحية أخرى، إذا لم يخضع القانون للمراجعة، أو إذا لم تتمكّن الدّولة الفرنسيّة من إيجاد طُرُق أخرى لمراقبة الإسلام وتوجيهه، فإنّ الإسلام في فرنسا يُخاطر بالوقوع تحت سيطرة الدّول الأجنبيّة أو تأثير الرّاديكاليّين. وتلك هي الحالة، بالفعل: بما أنّ الّلائكيّة تحظُر على السّلطات الفرنسيّة استخدام الأموال العامّة لبناء المساجد أو تدريب الأئمة، فقد قامت الجزائر والمغرب وتركيا والسّعوديّة بالتّدخّل. ووفقاً لما ذكرته المجلّة الإخباريّة ليكسبريس، فإنّ 70 في المائة من الأئمة الّذي يُمارسون عملهم في فرنسا ليسوا فرنسيّين.
اقرأ أيضاً: هل تنجح فرنسا في كشف ممولي الإرهاب؟
وفي محاولة للتّغلّب على هذه التّناقضات، قام الرّئيس إيمانويل ماكرون مؤخّراً بالاجتماع، في قصر الإليزيه، بمختلف الزّعماء المسلمين في البلاد وبعد ذلك، بممثّلين من جميع الأديان. وكان جدول أعمال الاجتماع الأوسع، الّذي عُقِدَ في 10 كانون الثّاني (يناير) الماضي، يضمّ المسائل الطّارئة التّقليديّة: كيفيّة معاقبة الرّاديكاليّة، ومراقبة تمويل المساجد، وجعل السّلطات الإسلاميّة عُرضة للمحاسبة. وذكرت صحيفة لوموند اليوميّة الإخباريّة، الّتي حصلت على المذّكرة الّتي سلّمها الرّئيس للحضور، أنّ الحكومة تقترح إعادة النّظر في قانون عام 1905 على نحو يؤدّي إلى "تأكيد" "مبادئه".
كان الأمر أشبه بمحاولة تربيع الدّائرة، أشبه بحالة توعّك، من نمط فرنسيّ جدّاً. والسّؤال الأضيق حول ما يجب فعله بشأن الأئمة - أصولهم، تدريباتهم، رواتبهم - يلخّص الأمر بشكل جيّد.
البحث عن إمام
تِلْكُم العقبة الأولى: من المستحيل تقريباً إحصاء عدد الأئمة في فرنسا. لا أحد يعرف حقّاً كم عددهم، ويعود ذلك، جزئيّاً، إلى أنّه من المحظور جمع بيانات على أُسسٍ عرقيّة أو دينيّة. وتُشير آخر تقديرات مُتاحة من وزارة الدّاخليّة - والّتي تعود إلى عام 2012 - إلى أنّ عدد المساجد في فرنسا يبلغ حوالي 2,500مسجد. (ويُشير تقرير صادر عن مجلس الشّيوخ، في عام 2016، إلى أنّ العدد يقترب من 3,000). لكن هذه الأرقام، غير الدّقيقة في المقام الأوّل، عفا عليها الزّمن اليوم: فما الّذي يُمكن أنّ يُعدّ "مسجداً" في وقتٍ يجتمع فيه العديد من المؤمنين المسلمين في الطّوابق السّفليّة للمجمّعات السّكنيّة الفقيرة أو غير ذلك من قاعات صلاةٍ مُرتجلة؟ كما أنّ وجود 2,500 مسجد لا يعني وجود 2,500 إمام: ففي الإسلام السّنّي، الصّيغة الأكثر انتشاراً للإسلام في فرنسا، يُمكن لأيّ شخصٍ أن يُعلِن نفسه إماماً ويتطوّع لقيادة الصّلاة أو خطبة الجمعة.
اقرأ أيضاً: هل تنسحب فرنسا من سوريا أيضاً؟
ما من سلطة مركزيّة تُشرِف على الإسلام في فرنسا. وعلى كلّ حال، كيف يُمكنك الإشراف على مساجدٍ لا تموّلها أو أئمةٍ لا تستطيع دفع رواتبهم؟
في الوقت الحاليّ، تفضّل فرنسا، بسبب افتقارها إلى المدارس الّلاهوتيّة الخاصّة بها، الهجرة المُفلترَة: فهي تجلب الأئمة من الخارج، ومعظمهم من البلدان الأصليّة لمجتمعات المهاجرين الرّئيسة، إمّا لفترات طويلة أو فقط لشهر رمضان. ومن عجيب المفارقات هنا أنّ أحد مبرّرات هذه السّياسة - بالرّغم من أنّه نادراً ما يتمّ الاعتراف بذلك علناً - يتمثّل في الأمن: يبدو الاعتماد على إمامٍ رسميّ من الجزائر أقلّ خطورة من السّماح لشخصٍ نصّب نفسه إماماً بأن يَظهر في ضواحي باريس.
على سبيل المثال، يجب على الأئمة الجزائريّين الرّاغبين في الذّهاب إلى فرنسا أن يخضعوا أوّلاً للتّحقيق. وكما تقول الحكومة الجزائريّة، بتواضع، فإنّ "الخبرة الجزائريّة" في مسائل الأمن الدّاخليّ تضمن فحص الجودة. وقد عرضت الحكومة خدماتها أيضاً على الولايات المتّحدة وبلجيكا وإيطاليا.
اقرأ أيضاً: أردوغان يستغل احتجاجات فرنسا.. هذا ما قاله
وفي عام 2018، أرسلت الجزائر ما يقرب من 100 إمام للعمل في فرنسا. والمغرب وتونس ساهمتا بعددٍ مُقارِب. وفي عام 2017، نشرَت ليكسبريس العنوان "المغرب، مصنع الأئمة الفرنسيّين" مع مقالة تدور حول أئمة تحت التّدريب، أُرسِل بعضهم من فرنسا، كانت المملكة تدرّبهم على كيفيّة تطبيق الإسلام "الوسطيّ" قبل إرسالهم خارج البلاد. ووفقاً لصحيفة "لوبوان" الإخباريّة الأسبوعيّة، فإنّ "هياكل قُنصليّة" تركية تُشرِف على أكثر من 250 مسجداً ونحو 200 إمام أعارتهم تركيا إلى فرنسا.
تعقيدات الماضي الاستعماريّ والتّدخل الخارجيّ
قد يبدو الاستيراد المُفلتَر للأئمة الأجانب حلّاً عمليّاً جيّدًا؛ في الواقع، إنّه فخّ أيديولوجيّ. فهؤلاء الأئمة، حتّى لو عملوا بحسن نيّة، لا يُمكنهم إلّا تعزيز التّشرنق الطّائفيّ في فرنسا والعمل ضدّ الاندماج؛ لأنهم ليسوا فرنسيّين. باسم الّلائكيّة، تفوِّض فرنسا إسلامَها بشكل خطير إلى دول أخرى.
وهذه الدّول تستفيد من ذلك. فبالنّسبة إلى الحكومة الجزائريّة، يبدو أنّ تصدير الأئمة يؤكّد عودة البلاد إلى الاستقرار. والسّعوديّة تعتبر التّبشير [الّذي يستهدف تحويل النّاس دينيّاً] شكلاً من أشكال القوّة النّاعمة. وكذلك تركيا، الّتي يبدو أنّها استثمرت في الحفاظ على جماعات ضغط دينيّة في الخارج.
إنّ سياسات استيراد الأئمة والتّمويل الخارجيّ للمساجد تتّخذ طريقاً مسدوداً؛ فهي لن تفعل ما يكفي للقضاء على الرّاديكاليّة بفرنسا
إنّ الرّهانات عالية، على ما يبدو. وعندما قامت الحكومة النّمساويّة، في العام الماضي، بطرد حوالي 60 من الدّعاة الأتراك لمواجهة ما قالت إنّه عمليّة خلقٍ لـ"مجتمعات موازية" و"إسلام سياسيّ"، وصفت تركيا التّحرّك بـ"العنصريّ" و"الإسلاموفوبيّ". وعندما قالت الحكومة الفرنسيّة إنّها تريد خلق "إسلام فرنسيّ" متميّز، قامت الجزائر - بشكل غير مباشر، من خلال مقالة رأي لأحد الخبراء في وسيلة إعلام رسميّة - باتّهامها بـ "الغطرسة المصبوغة بالجهل".
إنّ سياسات استيراد الأئمة والتّمويل الخارجيّ للمساجد - هذا التّفويض في الصّلاحيّات الّذي تقوم به السّلطات الفرنسيّة - تتّخذ طريقاً مسدوداً: فهي لن تفعل ما يكفي للقضاء على الرّاديكاليّة في فرنسا، ولن تقوم إلّا بما هو أقلّ من أجل بزوغ، على وجه التّحديد، إسلام فرنسيّ.
اقرأ أيضاً: داعش يستغل احتجاجات فرنسا.. ماذا فعل؟
يبدو أنّ مكتب الرّئيس يريد التّغلب على كلّ هذا. لكن بعض المشاركين في هذا الاجتماع الأوّل الّذي عقدَه السّيّد ماكرون، في بداية العام، استجابوا بغضبٍ محسوبٍ قبل قبول الدّعوة. فقد شجب أعضاء المجلس الفرنسيّ للإيمان الإسلاميّ ما وصفوه بـ "الإدارة الإستعماريّة للإسلام". وهذا تداخُل ذكيّ: فمن خلال التّذرّع بالاستعمار، يستطيعون استغلال الذّنب كورقة مساومة فيما يحافظون على التّكافؤ الطّائفيّ للإسلام. لماذا يقومون بذلك؟ خوفاً من فقدان السّلطة إذا طوّرت فرنسا صيغتها الخاصّة من الإسلام. والعزف على وضع المسلمين كمجموعة سبق استعمارها يُعدّ وسيلةً لإبراز روابطهم ببلدانهم الأصليّة، على حساب روابطهم ببلدهم المُضيِف.
الصّراع على الإسلام في فرنسا
هذا، وقد فشلت محاولات سابقة لإنشاء مجالس إسلاميّة - الجامع الكبير في باريس، اتّحاد المسلمين الفرنسيّين، اتّحاد المنظّمات الإسلاميّة في فرنسا (المعروف أيضاً باسم "مسلمو فرنسا") - يمكن أن تمثّل المجتمعات المسلمة المختلفة في فرنسا بشكل فعّال. ويرجع ذلك إلى التّنافس بين قادة هذه المنظّمات، والنّزاعات الطّائفيّة المختلفة، والحكومات الأجنبيّة الّتي تحظى بصِلات بمجتمعات المهاجرين. فالجزائر تنافس المغرب، وكلتاهما تنافس تركيا والسّعوديّة: وكما أشار الصّحافيّ هنري تانك إلى موقع Slate.fr، فإنّ جامع باريس "موال للجزائر"، واتّحاد المسلمين الفرنسيّين لديه "روابط مع رابطة العالم الإسلاميّ والمغرب" واتّحاد المنظمات الإسلاميّة في فرنسا "قريب من جماعة الإخوان المسلمين".
اقرأ أيضاً: فرنسا مدينة للعربية بـ500 كلمة تستخدمها في لغتها اليومية
من الصّعب فصل الإسلام عن مجتمعه وفصل المجتمع عن بلده الأصليّ دون الاتّهام بالتّدخّل. وعندما تحاول الحكومة الفرنسيّة إدارة الإسلام في فرنسا، تقول الجزائر إنّها تتدخّل، وعندما تقول ذلك، فإنّ الجزائر هي من تتدخّل في شؤون فرنسا.
الطّريق نحو إسلام فرنسيّ
إذًا، ما العمل؟ ثمّة حلّ يقترحه حكيم القرويّ، وهو مستشار دوليّ قريب من السّيّد ماكرون ومؤلّف التّقرير الأخير المعنون "المصنع الإسلامويّ"، والكتاب الصّادر عام 2016، "إسلام فرنسيّ مُمكن".
أوّلاً، يوصي بضرورة الإشراف الصّارم على التّمويل الخارجيّ أو الأموال غير الرّسميّة الّتي يتمّ جمعها في المساجد أو الأحياء أو الجمعيّات المحلّيّة. كما يقترح إنشاء صندوق مستقلّ لتدريب الأئمة بفرض ضرائب على الشّركات الحلال، والأموال الّتي جُمعت من خلال الزّكاة، والتّجارة المتعلّقة بالحجّ إلى مكة. وهذه أفكار جيّدة لمحاولة الإبقاء على الفصل بين الدّولة والكنيسة، أو العبادة، مع دمج المسلمين الفرنسيّين في فرنسا.
اقرأ أيضاً: الإرهاب في فرنسا.. معلومات جديدة يكشفها وزير الداخلية
لكن ما يجب أن يكون مصدر توحيد يُثبت الانقسام: فمقترحات السّيّد القرويّ مثيرة للجدل، خاصّة للمجلس الفرنسيّ للإيمان الإسلاميّ. وقد وصفها أحد نواب رئيس المنظمة "بالإهانة" للإسلام واتّهم السّيّد القرويّ بالخلط بين الإسلام والإسلامويّة. وردّ الفعل هذا يفسّر الجدل الّذي لا نهاية له بين من يريدون الحفاظ على احتكارٍ للإسلام في فرنسا وأولئك الّذين يرغبون في تطوير إسلامٍ فرنسيّ.
المصدر: كامل داود، النيويورك