دعيتُ إلى معرض كتاب تونس، في دورته الرابعة والثلاثين هذا العام، على هامش ندوتين؛ إحداهما كانت بعنوان "مقاربات في دراسة التطرف والإرهاب"، واللافت للانتباه أنّ هذه الندوة كانت مخصصة للكاتبات اللواتي تتطرقن لمفهوم صناعة التطرف والإرهاب، وصار هناك اهتمام جليّ وخاصّ بالكتابات النسائية التي تركز على إعادة قراءة تاريخ الإسلام السياسي وتاريخ المورثات الدينية، وأثرها المجتمعي والثقافي.
واستخدام كلمة (النسائية) بدلاً من (النسوية) مقصود وفي محلّه؛ فليس بالضرورة أن تكون كلّ كتابات المرأة عن حال المرأة وحقوقها في إطار القضية النسوية، كما يشاع في مجتمعاتنا، فكثير من الناشطات والكاتبات يولين اهتمامهن بقضايا مجتمعية عامة والمرأة جزء منها، وبات عدد منهن يوجهن أقلامهنّ إلى نقد وتحليل وتفكيك الخطاب الديني، وقد شهدت الأعوام الأخيرة ازدياداً نسبياً في تلك الأقلام النسائية؛ بفضل تطور الإعلام المجتمعي (السوشال ميديا)، وزيادة رقعة النشر في المواقع الصحفية والمدونات الفكرية.
نشهد مؤخراً ازدياداً في الأقلام النسائية بفضل السوشال ميديا وزيادة رقعة النشر بالمواقع والمدونات
لكنّ تنامي هذه الظاهرة لا يعني أنّها جديدة؛ بل كانت منحصرة في قليل من الكاتبات، اللواتي واتتهن الجرأة لخوض هذا المجال الذي لطالما احتكره الكتّاب الرجال.
لعلّ النظر في تاريخ هذه الأقلام النسائية التي خاضت تجربة الكتابة والبحث في هذا المجال، الشائك نسبياً، بات من الضروري، ولعلّ أبرز هذه الأقلام: قلم "أبكار السقاف".
ما كان يلفت انتباهنا كثيراً؛ هو أنّ أبكار السقاف لم تنل شهرة كاتبات أخريات، مثل د. نوال السعداوي مثلاً في مصر، رغم أنّ كتاباتها لم تقل أهمية ولا جرأة، بل كانت تتميز كتاباتها بالتوثيق الأكاديمي، والجرأة المدعمة بالحجّة العلمية، ولعلّ خوضها الكتابة في مقارنة الأديان كان استثناءً بين كاتبات عصرها، واتّسم قلمها بالربط بين الأسلوب الأدبي والعلمي.
نشأت أبكار السقاف في مدينة الإسكندرية، إلّا أنّها ولدت في القاهرة عام 1913، لأمّ تركية وأب يمني، ألا وهو محمد سعيد السقاف من حضرموت، ولا يخفى على التاريخ، أنّ الأب السقاف شارك في الثورة العربية الكبرى عام 1916، وهي ثورة مسلحة ضدّ الخلافة العثمانية، أسقطت الحكم العثماني في سوريا والعراق، وأصبح شعارها "خلع طاعة" الخلافة العثمانية.
قلم السقاف كان جريئاً فكتبت عن العقل الجمعي للشعوب والذي يعدّ نقد الفكر الديني كفراً
فلا شكّ في أنّ أبكار نشأت في ظروف عائلية ليست ببعيدة عن الاهتمام والمشاركة في الشؤون السياسية والتغيرات الإقليمية العاصفة، نضف إلى ذلك ولعها الشديد بالقراءة، والاطلاع في الفلسفة والطب والعلوم الإنسانية.
كادت أبكار أن تكون أميرة، ومن ثم ملكة متوجة على ليبيا، حين أُعلنت خطبتها على الأمير إدريس السنوسي، أمير برقة، عام 1929، الذي سيصبح فيما بعد ملكاً على البلاد، حتى تاريخ عزله على يد معمر القذافي عام 1969، وقبل إتمام زواج أبكار على الأمير السنوسي، فسخت الخطبة لأسباب غير معلومة، إلّا أنّ الخلافات في التوجهات السياسية بين والد أبكار والأمير الليبي كانت تخيم بظلالها على المشهد.
تزوجت أبكار مرتين، فيما بعد، ولعلّ القدر حوّل مصيرها من ملكة إلى مفكرة وكاتبة، خاضت معارك على الورق وبين طيات الكتب.
وعرِفت في الأوساط الأدبية بأنّها تلميذة المفكر المصري عباس محمود العقاد؛ كونها كانت تحضر صالونه الثقافي والأدبي بانتظام، ولو أنّ مجموع كتاباتها يمكن تصنيفها في إطار مختلف نسبياً عن كتابات العقاد؛ فأبكار حملت نظرة تحررية للمرأة، بخلاف العقاد الذي كان يحمل نظرة تمييزية ضدّ المرأة، وقد عبّر عن توجهاته في كتاب "المرأة في القرآن"، والذي ركّز فيه العقاد على تناول فكرة القوامة وولاية الرجل على المرأة، وأكّد تبعيتها في القرارات للرجل، واستند بشدة، في كتابه، إلى الآية (34) من سورة النساء في القرآن الكريم: "واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا"؛ بل ذهب العقاد في كتابه إلى القول إنّ فضل المرأة على الرجل" في التطريز والطهي"، وهذه أفكار تختلف؛ شكلاً ومضموناً، عن المفاهيم التي تبنّتها أبكار، إلّا أنّ العلاقة ظلت وطيدة بينهما، ولعلّ الصورة الوحيدة المتوفرة لأبكار السقاف اليوم، هي صورتها إلى جانب العقاد، وهي ترتدي نظارة سوداء.
كتبت السقاف عدة كتب منها ما وصل إلينا رغم منعه في الستينيات ومنها ما لم يُنشر
قلم أبكار السقاف كان جريئاً مغواراً، فكتبت في خمسينيات القرن الماضي عن العقل الجمعي للشعوب، الذي يعدّ الخروج عن المألوف في الفكر الديني كفراً بدين الآباء، وفكّكت ظاهرة الكهنوت الديني المسيطر على المجتمعات والثقافة، وانتقدت اختزال الدين في طقوس نصنع منها الفاصل بين الخير والشرّ.
كتبت أبكار السقاف عدة كتب، منها ما وصل إلينا رغم منعه في ستينيات القرن الماضي، ومنها ما لم يُنشر، ويعود الفضل إلى الفنانة التشكيلية، ضياء السقاف، التي بذلت مجهوداً كبيراً في الحفاظ على التراث الفكري لشقيقتها أبكار.
كان من أبرز ما كتبت أبكار السقاف كتاب "نحو آفاق أوسع"، وهو من أربعة أجزاء، جاء أولها بعنوان "الدين في مصر القديمة"؛ حيث فكّكت في هذا الجزء مفهوم الألوهية وكيف نشأت الأديان، وفيه قامت بعمل مقاربات بين الأساطير في ديانة مصر القديمة وما بعدها من أديان، وربما قامت بسرد مقارنة بين إيزيس والعذراء مريم في جرأة شديدة، فكلاهما (أم الإله)، وفق رأيها.
حمل الجزء الثاني عنوان "الدين في الهند والصين وإيران"، أما الجزء الثالث فكان بعنوان "الدين عند الإغريق واليونانيين والمسيحيين"، في حين جاء الرابع بعنوان "الدين في شبه الجزيرة العربية"، وفيه قامت بدراسة الأديان وتطورها في شبه الجزيرة العربية، ما قبل وما بعد الإسلام، في إطار سياسي واجتماعي، فسّرت من خلاله وظائف الآيات القرآنية، وكان هذا الجزء تحديداً سبباً في مصادرة كتب أبكار السقاف، لقد دخلت أبكار السقاف في منطقة خطرة، حاولت أن تفرّق بين النص الديني وأوهام الإنسان التي صنعت الفكر السائد عن الأديان.
إنّ كتابات أبكار السقاف علمية بحتة، وتعتمد على منهج التفكيك والتحليل، لكنّها بموازين هذا اليوم، قد تجد نفسها واقفة في محاكمة بتهمة ازدراء الأديان، كما حدث مع د. نصر حامد أبو زيد في تسعينيات القرن الماضي، لكن ربما المصادرة المبكرة لأعمالها في الستينيات، واختيارها الانزواء، كان سبباً وفاتها في فراشها دون محاكمات.
كتابات السقاف علمية بحتة ومنهجية لكنّها بموازين اليوم قد تجد نفسها متهمة بازدراء الأديان
لم تكن سلسلة "نحو آفاق أوسع"؛ هي الإنتاج الوحيد لأبكار السقاف، فكان لها موسوعات لم تنشر، منها -على سبيل المثال- موسوعة عن النبي محمد، والنبي عيسى، والنبي موسى، عليهم السلام.
كما أصدرت كتاباً بعنوان "إسرائيل وحقيقة الأرض الموعودة"، وإلى جانب ذلك كتبت أبكار السقاف واحداً من أهم كتبها، ألا وهو: "الحلاج أو صوت الضمير"، وفيه تناولت سيرة "المنصور بن حسين الحلاج (858-922 هـ)"، وقد حوكم وقتِل بتهمة الزندقة التي ثبتت عليه، كما ادّعى الشيخ ابن تيمية.
اهتمت أبكار السقاف في كتاب "الحلاج أو صوت الضمير"، بما هو أبعد من الفكر التصوفي للحلاج، إنّما تعمدت أن تفكّك صورة الإله في عقله؛ فالحلاج لم يكفر بالإله، إنّما كان مؤمناً بنسبية الأديان، وتصورات البشر عن الإله الذين يعبدونه.
اختارت الانزواء واعتكفت على القراءة والكتابة بمراحل لاحقة حتى توفيت عام 1989
لم تكتف أبكار السقاف بهذا الطرح، وإنّما سألت سؤالاً أكثر عمقاً، وكأنّها تكتب بمبضع الجراح، حين تساءلت عن سبب التمييز بين (الحلاج) و(رابعة العدوية) في المصير، فتقول وتلفت انتباهنا عن تشابه المذهب الفكري للحلاج ورابعة العدوية، وتتساءل: لم كان هذا الفكر الفلسفي سبباً في قتل الحلاج، بينما كان الفكر نفسه سبباً في الثناء على رابعة العدوية بعد إسلامها بكل تأكيد؟
ما خاضته أبكار السقاف من معارك على الورق كان مذهلاً بكل تأكيد، وربما اختارت الانزواء بعيداً عن دائرة أضواء الثقافة، واعتكفت على القراءة والاطلاع والكتابة في مراحل لاحقة في حياتها، حتى وافتها المنية عام 1989.
ما من شكّ في أنّ سيرة أبكار السقاف وشهرتها، لا تتناسب مع حجم ما تركته من فكر وإبداع، لكن بات من الضروري إعادة نشر وتحليل ما كتبته، باعتبارها واحدة من رائدات التنوير في التاريخ الحديث.