منذ فترة مبكرة في تاريخ الفكر العربي الحديث، كان مشروع التحديث في مصر يعدّ النموذج الأوروبي للحداثة؛ هو النموذج الأوحد الذي ينبغي أن تأخذ به مصر في طريقها للتقدم، فكان طه حسين يرى أنّ كلمة الخديوي إسماعيل؛ بأنّ مصر ينبغي أن تكون قطعة من أوروبا، هي هدف ومبتغى نسعى إلى تحقيقه، وأنّ مصر لدى طه حسين هي جزء من ثقافة البحر الأبيض المتوسط، وكذلك كان سلامة موسى يدعو إلى ربط مصر بالغرب، وأن نفكر كما يفكر، وأنه لا سبيل لنا في التقدم إلا بتقليد الحداثة الأوروبية في كلّ شيء.
يعدّ أحمد زايد الثقافة الدينية أحد الأسباب المسؤولة عن تناقضات الحداثة؛ فالحداثة البرانية لم تسمح بتطوير الخطاب الديني
وبعد مرور أكثر من قرنين من الزمن على بدء الحداثة الأوروبية، يأتي المفكر السيسيولوجي، أحمد زايد، ليرى أنّ مشروع الحداثة المصرية قد أخفق في ترسيخ الحداثة في مجتمعاتنا، وقد حاول أن يبحث في بعض أعماله عن أسباب إخفاق مشروع الحداثة في مصر، وذلك من منطلق أنّ أيّ خطاب فكريّ حول الأصالة والمعاصرة، والتقليد والحداثة، يعاني قصوراً واضحاً؛ لأنّه يتجاهل ديناميات الجماعة والمجتمع؛ فمشروع الحداثة لم يستقر عند المستوى السياسي والفكري، لكنّه مشروع للمجتمع؛ لذا فإنّ درس مشروع الحداثة بمعزل عن المجتمع وطبقاته اليومية سيكون درساً منقوصاً.
الحداثة ومدّ العولمة
يرى زايد أنّ مشروع الحداثة كما نبت في الغرب، قدّم نفسه، منذ البداية، على أنّه مشروع عولميّ منذ ظهوره مع المدّ الكولونيالي، في منتصف القرن التاسع عشر، حتى المرحلة الأخيرة، مرحلة عدم اليقين، التي أصبحت فيها مفاهيم الزمان والمكان مفاهيم مفتوحة، ورأى أنّ الحداثة المعولمة تنطلق من المركز، رغبة في توحيد المجتمع العالمي، وحركة السوق، وحركة الأفراد في العالم، ومحاولة خلق صور عديدة من التجانس التي تخدم ثقافة المركز على حساب ثقافة الأطراف، وذلك من خلال وسائل الاتصال والإعلام الحديث، والبحث عن تنميط صورة واحدة للعالم، وفق آلياتها ورؤيتها للعالم.
اقرأ أيضاً: في نقد الحداثة إسلامياً
ويؤكد زايد؛ أنّ المدّ العولميّ للحداثة أسهم في خلق حالة من الصراع داخل ثقافة الأطراف، فظهرت الجماعات الأصولية لتتحدث عن التعلق بالتراث والهوية، والحنين للماضي، وكل هذه العمليات التي هي مظهر من مظاهر العولمة، وما الحركات الأصولية إلا طور حداثي، فظهرت المواجهة بين ما هو كونيّ وما هو محليّ، والمواجهة بين عالم ماك والجهاد الإسلامي، المواجهة بين عالم الحداثة والجهاد الإسلامي، ومن ثمّ؛ فقد خلقت الحداثة صوراً من الصراع بين الحداثيّ والتقليديّ في المجتمعات الطرفية؛ لذا صارت الحداثة الطرفية عرضة للتفكك؛ لأنّها لم تنطلق أو تتأسس على جذر حداثي داخلي صلب، لكنّها تستمدّ قوانين تطورها وآليات حركتها من خارجها.
اقرأ أيضاً: هل الحداثة الإسلاميّة ممكنة؟
ويذهب زايد إلى أنّ المشروع الحداثيّ بدأ منذ القرن التاسع عشر، في شكل نظم سياسية وتعليمية حديثة، لكنّ إدارة هذه النظم لم تتم وفق سياسة مدنية حديثة؛ بل ظلّت ثقافة الإمبراطورية هي الثقافة الحاكمة، التي تعمل من وراء ستار في عملية إضفاء الشرعية على صور الممارسات السياسية، وهو ما يعني أنّ الحداثة الطرفية في مصر كانت انتقائية وقشرية، في معظم الأحيان، وأنّها مجرّد حداثة برانية.
جدل الحداثة والثقافة الدينية
من ثم؛ يرى زايد أنّ الحداثة المعولمة تسعى، على المستوى الكونيّ، إلى التوحيد، وتجاوز حدود الزمان والمكان، بينما الحداثات الطرفية كان يتعارض فيها زمن الحداثة مع زمن التراث، كما أنّ الثقافات الطرفية كانت تعيد التشبث بالمكان والزمان الخاص بها، وتعيد توظيف الدين والعرف لمقاومة الحداثة المركزية؛ ففي الوقت الذي تميل فيه الثقافة المركزية للحداثة إلى تحرير الجسد، خاصّة جسد المرأة، فإنّه في الحركات الاجتماعية تميل الأطراف إلى تقييد الجسد وحركته بالرموز، وتكبيل المرأة بالقيود، ومن ثمّ؛ فإنّ الحداثة الطرفية هي حداثة برانية، لا تتمتع بالتماسك والاستقرار والتراكم الزمنيّ.
المدّ العولميّ للحداثة أسهم في خلق حالة من الصراع داخل ثقافة الأطراف؛ فظهرت الجماعات الأصولية لتتحدث عن التعلق بالتراث والهوية
ويعدّ أحمد زايد الثقافة الدينية أحد الأسباب المسؤولة عن تناقضات الحداثة؛ لأنّ علاقة الإسلام بالحداثة حملت أشكالاً للتكيف معها وأشكالاً أخرى للرفض، فلم تسمح الحداثة البرانية بتطوير الخطاب الديني، هذا الخطاب الذي قام على استهلاك منتجات الحداثة، باعتبارها من نعم الله، ومن ثم حاولت المؤسسات الدينية أن تقدم الفتاوى للدولة الحديثة في المسائل الخلافية التي أفرزتها الحداثة، مثل: فوائد البنوك، وتنظيم الأسرة، واستخدام التكنولوجيا، وزراعة الأعضاء، وغيرها.
وينتهى زايد في تحليله للحداثة على أنّ عمليات التحديث خضعت لأهواء الجماعات المسيطرة، والنخب السياسية، واعتمدت على ضروب من التحديث القسري والانتقاء المتعسف، واهتمت بالجوانب التي تعنى بالغريزة والطاقة، أكثر من الجوانب التي تغذي العقل والروح، وبالتالي؛ فإنّ ما نقل من الحداثة ليس أفضل ما فيها، فجاءت حداثة برانية قشرية لا تؤدّي إلى إحداث تغيير جوهري، بقدر ما تؤدّي إلى تغييرات سطحية وتناقضات متعددة المستويات، ومن ثم أدت الحداثة إلى تخليق سمات تختلف عن سماتها في أرض المنشأ، لقد فكّكت الحداثة علاقات الزمان والمكان، فأخرجت البشر من تاريخهم عنوة، كما أخرجت البشر من مكانهم عنوة، فكانت النتيجة مزيداً من التحصين في الزمان والمكان، ولم تخلق الحداثة انطلاقاً مدعوماً بالثقة، بقدر ما خلقت عجزاً مصحوباً بالتوجّس والشكّ، وبالتالي؛ فهي لم تطور معياراً واحداً للمراجعة النظامية، بقدر ما خلقت معايير مضاربة تقوم على التسلط الفردي تارة، ومرجعية التراث تارة، والمرجعية الغربية تارة ثالثة.
اقرأ أيضاً: الحداثة وعقلنة الخطاب الإسلامي
ومن ثم؛ فإنّ زايد يرى أنّ تناقضات الحداثة في مصر، وغيرها من دول الأطراف، جاءت من كونها حداثات برانية طرفية، يتصارع فيها الكوني مع الإقليمي، وتميل الثقافة التقليدية في الأطراف إلى التشبث بالعناصر التقليدية في المجتمع، للمحافظة على الهوية، كما أنّ عمليات التحديث كانت نخبوية فوقية، وتخضع في الغالب لإرادة النخبة.