لا يبدو أمراً طبيعياً بالنسبة لصانعي السياسة البريطانية ممن هندسوا إعلان (وعد) بلفور، أن تكون بذرتهم في "وطن قومي لليهود"، وقد صارت بعد قرن كامل بالتمام، حصاداً من الأزمات والحروب والانقسامات العابرة لحدود فلسطين والعالم العربي، مما دفع أحفادهم إلى إعلان تنصلهم من ذلك الإرث، لا بل نقده والاعتراض عليه.
هذا ما تناولته مقالة مشتركة في الملحق الأسبوعي لصحيفة "وول ستريت جورنال" وقّعها سايمون كلارك ولورانس فليتشير، وتتضمن فيديو يظهر قراءات عدة من سياسيين بريطانيين معاصرين، يشيران إلى أنّ الحدث الذي ستشهد لندن ذكراه المئوية في 2 نوفمبر، ضمن حفل عشاء بحضور رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، ونظيرها الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، سيكون تحت إجراءات أمنية مشددة، لجهة الرفض الواسع الذي سيُقابل به والتنصل من نتائج سياسة لويد- بلفور.
روبرت حفيد بلفورسيعارض الوعد بغضب، والحفيدة غوينيث ستقف في الرصيف المقابل للبرلمان البريطاني حيث التظاهرات الاحتجاجية
ومن بين أبرز هؤلاء الأحفاد الغاضبين، يأتي روبرت لويد جورج (حفيد رئيس الوزراء الذي قدم وزيره للشؤون الخارجية، بلفور، ذلك الوعد)، ولكنه سيشارك في حفل العشاء ليظهر ملاحظاته الغاضبة، ولكن الحفيدة، غوينيث- دانيال ستذهب إلى مجال أشدّ وضوحاً في الإعلان عن الغضب، فهي ستقف في الرصيف المقابل حيث التظاهرات الاحتجاجية للخطوة البريطانية التي تظهر "تصرفاً فاقداً للشرعية؛ فهو يقتطع أرضاً محتلة من قبل الجيش البريطاني ويقدمها إلى غير أهلها"، كما يوضح الكاتبان ناقلين عن غوينيث- دانيال، قولها "بريطانيا مدينة لفلسطين بالاعتذار لا الاحتفال، وما تقوم به الحكومة من إحياء للذكرى، هو عمل يخلو من أية مسؤولية"‘ في رد واضح على إعلان تيريزا ماي من كونها "تحيي الحدث بكل فخر".
الكاتبان يكشفان إحصاءً رسمياً في العام 1922، يكشف أغلبية عربية (مسلمون ومسيحيون) تصل إلى 89 بالمئة مقابل 11 بالمئة من اليهود، مع ملاحظة أنّ النسبة الأخيرة جاءت بعد خمس سنوات من موجات هجرة يهودية؛ أي إن عدد من كانوا على الأرض الفلسطينية حين وقعت الوثيقة البريطانية كانوا أقل من النسبة الأخيرة.
إرث غاندي
وفي معسكر المحتجين على إحياء الذكرى المئوية، سيقف حفيد المهاتما غاندي، الزعيم الهندي وباني حركة الاحتجاج السلمي التي ألهمت مئات الملايين في بلاده والعالم، فهو وجماعة مسيحية بصدد تنظيم وقفة بالقرب من البرلمان البريطاني يكشف فيها عن المطالب الشرعية للفلسطينيين الذين تعرضوا كمسلمين ومسيحيين إلى ظلم ممنهج، اعتماداً على "تزييف للحقائق قامت به بريطانيا" وعملت على إيجاد واقع جديد اعتماداً على ذلك الزيف.
صحيح أنّ الوثيقة الموجهة إلى روتشيلد، زعيم الجالية اليهودية البريطانية، كانت تدعو إلى "ضمان الحقوق المدنية والدينية للعرب المسلمين والمسيحيين"، لكن هذا لم يعد صحيحاً مع فقرة أخرى في الوثيقة تنص على أنّ "حكومة الملك البريطاني ستعمل بشكل حثيث على تطبيق الإعلان- الوعد"، وبما إنّ قوات تلك الحكومة كانت تحتل الأرض الفلسطينية، فهي كانت تنفذ الوعد لجعله حقيقة وهو ما شهدته الفترة من 1917 حتى 1948، عام الانسحاب البريطاني من فلسطين وقيام الدولة العبرية.
فرصة العالم المفتت المنقسم
وفي وقت بدا فيه العالم مفتتاً بتأثير الحرب الكونية الأولى، وقواه الكبرى منقسمة على جبهتي حرب ضروس، جاءت خطوة وزير الخارجية البريطاني آرثر جيمس بلفور (1848-1930) تحت قيادة رئيس الوزراء الليبرالي ديفيد لويد جورج (1863-1945) في استثمار "ذكي" عرف به البريطانيون، ليكتب إلى ليونيل والتر روتشيلد (1868-1837) زعيم الجالية اليهودية. وجاء في الرسالة التي تعرف الآن باسم إعلان بلفور:
عزيزي اللورد روتشيلد،
يسعدني أن أتوجه إليكم باسم حكومة صاحب الجلالة بالإعلان التالي عن التعاطف مع الطموحات الصهيونية اليهودية التي تم تقديمها إلى مجلس الوزراء ووافق عليها.
إنّ حكومة صاحب الجلالة ترى ضرورة إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل قصارى جهدها لتسهيل تحقيق هذا الهدف، ومن المفهوم بوضوح أنه لا يجوز القيام بأي شيء قد يضر بالحقوق المدنية والدينية للمجتمعات غير اليهودية الموجودة في فلسطين، أو الحقوق والمركز السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر.
وسأغدو ممتناً لو تفضلتم بإبلاغ هذا الإعلان إلى المؤتمر الصهيوني.
آرثر جيمس بلفور