أحاول أن أهرب من الأخبار

أحاول أن أهرب من الأخبار

أحاول أن أهرب من الأخبار


09/12/2023

أحاول أن أهرب من الأخبار، أن أغمض عينيّ عن رؤية أشلاء الأطفال، أن أتصرّف بحياد، أو أن أدرّب نفسي على اعتياد الموت. لكنّ ما يجري في غزة يقتل كلّ محاولاتي، ويضعني في قلب الألم.

غزّة تزجّ بي في جحيمها اليوميّ. تقول لي تعال وذُق طعم العذاب، وتجرّع مرارة الفقدان، وألمس الجرح الطريّ قبل أن يبرد، أو قبل أن ينفصل عن جسد قصفته دبّابة.

غزّة تفجع العالم كلّ لحظة. اُنظر إلى المأذنة الشاهقة. بعد قليل لن تكون ثمة مأذنة. سقط الهلال على الصليب، وأضحى المحراب كتل غبار معفّرة بالصلوات. إنه بيتك يا الله هذا الذي هدّمته الصواريخ. إنها صيحة الذبيح في نهار لم تشفع له دعوات الأمهات بأن يكتمل.

محمولاً على أكثر من ستين يوماً، وآلاف الصور التي لا تحصى، أتقلّب فوق جمر الانتظار. أما لهذا العذاب من آخر؟ أما لهذا النفق الطويل من كوّة تطلّ على خيط ضوء شحيح؟

 

لا رجاء لهذا الكون إلا بأن تتنزّل الرحمة على غزّة وأهلها، وأن تترفّق بهم الملائكة الذين حدّثتنا عنهم الكتب!

 

أكتب هذه الكلمات بعناء شديد، وأفرك رأسي بشدّة. ولو كان ثمة شَعر لتجمّع في كفّي. ولكنّ القحل عبث بالرأس منذ زمن بعيد، وها هو الآن يقترب من تخوم المخيّلة. الحرب مدمّرة يا صاحِ لو تعلم. الحرب تجهض الأفكار، وتحطّم العقل لو هو شاء أن يطبّق نواميسه على ما يجري هناك أو هنا. لا رجاء لهذا الكون إلا بأن تتنزّل الرحمة على غزّة وأهلها، وأن تترفّق بهم الملائكة الذين حدّثتنا عنهم الكتب!

أقلّب محطات التلفزة بحثاً عما هو جديد، عن الدم الطازج، عن البناية المقصوفة للتو، عن المستشفى الذي خرج في هذه الهنيهة عن الخدمة، عن الفسحة التي منحها البيت الأبيض لكي تظل قوّات العدو تدكّ غزّة حتى مطلع العام المقبل، شريطة ألا توقع عدداً كبيراً من الضحايا في صفوف المدنيّين! 

أحاول أن أقهقه فتخذلني وجنتاي. أحاول أن أبكي فيكون الفعل أقسى وأشدّ. أهرب من المتحدّث بلسان مجلس الأمن القوميّ، الذي يُقسم أغلظ الأيمان بأن تعارض بلاده أية هدنة إنسانيّة، كي يفتش فتى في غزّة عن ساقه المبتورة الضائعة بين الركام. يا لبهائكَ وأنت تطلّ بكبرياء، على خليج نيويورك، يا تمثالَ الحريّة.

وفي آخر الليل، حينما ينام الحراس والأجراس، ويذهب السكارى إلى غبطة التعتعة، أدرّب جفنيّ على مفارقة الكرى، فتظل تتراقص البنايات المترنّحة في مخيلتي قبل أن يستبدّ الغبار بعدسات الكاميرا.

ولما أجبر حواسي على النوم مكرهة، أغفو قليلاً. وفي تلك القيلولة الغافية أرى ذلك الفتى وهو يحفر بأظافره في أكوام الرمل والحجارة، وقبل أن يعثر على ساقه، يقصفه صاروخ موجّه من ضابط أراد أن يحتفل بعيد ميلاد طفلته، برفقة جنوده، فمحا البناية المجاورة من الوجود، ووثّق ذلك بفيديو ليكون عيد الميلاد مرصّعاً بالموت والصرخات المخنوقة. ابتهج أيّها الدم، وحلّق في السماء أيّها الغبار، واحرص أن تظل شعلة التنوير مضاءةً، يا تمثال الحريّة!

 



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية