آخر أيام مدينة الموتى في القاهرة القديمة

آخر أيام مدينة الموتى في القاهرة القديمة

آخر أيام مدينة الموتى في القاهرة القديمة


10/09/2023

وسط حالة من الجدل، وموجات غضب، وردود من الحكومة، ودعاوى قضائية، تتواصل أعمال هدم المقابر القديمة في مدينة الموتى بالقاهرة القديمة، كجزء من مشاريع طموحة لبناء الطرق والكباري؛ بهدف توسيع الطرق السريعة المؤدية إلى العاصمة الإدارية الجديدة، التي تمر عبر منطقة المقابر بالإمام الشافعي، والتي يعود تاريخها إلى القرن السابع الميلادي، وحتى أوائل القرن الـ (20).

يخشى المهتمون بالعمارة والتراث من اصطدام أعمال التطوير بتاريخ المصريين الثقافي، وعدم قدرة الدولة على تطويع هذا التطوير لتجنب المساس بالتراث، ففي خطة الدولة لتطوير محور صلاح سالم؛ تم الإعلان عن إزالة (2700) مقبرة من مقابر السيدة نفيسة، والإمام الشافعي، وباب الوزير، ونقلها لأماكن الجديدة في مدينتي (15 مايو والعاشر من رمضان)، على أن يتم إتاحة الوقت الكافي للعائلات لنقل رفات موتاها، إلى جانب توفير مساكن بديلة للأسر التي سيتم هدم منازلها خلال الفترة المقبلة، ضمن مشروع التطوير في المنطقة نفسها التي تضم مقابر الإمام الشافعي والليثي.

طالع الإزالة نذير شؤم يهدد التاريخ

على إثر رسم "طالع الإزالة" على عدد من المقابر، ومنها مقبرة عميد الأدب العربي "طه حسين"، والكاتب "يحيى حقي"، والشيخ "محمد رفعت" وآخرين، تفجرت موجة من الاحتجاجات على ما يحدث عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وبعد إعلان أسرة طه حسين أنّها بصدد نقل رفاته إلى فرنسا، وأنّها ستقيم ضريحاً له هناك، تمّ التراجع عن إزالة مقبرته، وكذلك مقبرة الشيخ محمد رفعت.

لكنّ بعض المقابر التاريخية لم تنجُ من الهدم، مثل مقبرة الفيلسوف المصري أحمد لطفي السيد، ورئيس وزراء مصر السابق حسن باشا صبري، وعبود باشا الذي يُعدّ أحد أعمدة الاقتصاد المصري في القرن الـ (20)، وزكي بك المهندس، أحد أهم مؤسسي التربية والتعليم في مصر، وهو والد الفنان فؤاد المهندس، والإذاعية صفية المهندس، ونازلي هانم حفيدة محمد علي باشا مؤسس مصر الحديثة، ومراد باشا محسن ناظر الملكية في عهد الملك فاروق الأول.

تتواصل أعمال هدم المقابر القديمة في مدينة الموتى بالقاهرة القديمة

وكذلك تم نقل جثمان الكاتب المصري الراحل يحيى حقي من منطقة السيدة نفيسة، ممّا دفع أسرته إلى الاحتجاج، لكن في النهاية أعلنت ابنته في تشرين الثاني (نوفمبر) 2022 أنّه جرى نقل جثمان الكاتب إلى مكان جديد، في مقبرة بديلة بمدينة العاشر من رمضان شمال شرقي القاهرة، على إثر قرار هدم المقبرة القديمة.

وأطلقت صفحة "رسم مصر"، وهي مبادرة تهتم بتاريخ مصر وفنونها منذ (5) أعوام، وتقوم بتنظيم جولات للمعالم التاريخية، فعالية تحت اسم "طالع إزالة"؛ لزيارة مقابر الإمام الشافعي لتوثيقها قبل التفكيك في 2 أيلول (سبتمبر) الجاري، ولاقت تلك الفعالية قبولاً كبيراً، لدرجة أنّها كانت الفعالية الكبرى في تاريخ المبادرة، وشارك فيها فنانون من محافظات عديدة؛ لتصوير ورسم المعالم المعمارية في المقابر قبل إزالتها.

ردّ الحكومة المصرية

في بيان أصدره المركز الإعلامي لمجلس الوزراء المصري، ردّاً على منشورات تزعم تنفيذ الحكومة حملة شاملة لهدم مقابر أثرية وتاريخية، أكد أنّه لا صحة لتنفيذ الحكومة حملة شاملة لهدم مقابر أثرية.

يخشى المهتمون بالعمارة والتراث من اصطدام أعمال التطوير بتاريخ المصريين الثقافي، وعدم قدرة الدولة على تطويع هذا التطوير لتجنب المساس بالتراث

وذكر أنّ كافة المقابر الأثرية قائمة كما هي، ولا يمكن المساس بها، فهي تخضع لقانون حماية الآثار رقم (117) لعام 1983، والذي يجرم أيّ عمل يتلف أو يهدم أثراً، مُؤكداً في الوقت نفسه حرص الدولة على الحفاظ على الآثار بكافة أنواعها وأشكالها، ليس فقط للأجيال القادمة، ولكن للإنسانية جمعاء.

ودافعت الحكومة عن خطتها للتحديث، وأصرّت على أنّ تطوير شبكات الطرق، وإزالة المناطق العشوائية؛ يصب في المصلحة العامة. كما أكدت أنّ الآثار في القاهرة التاريخية، وهي أحد مواقع التراث العالمي لليونسكو حيث تقع مدينة الموتى، ستبقى سليمة.

المهتمون بالتراث حذّروا من أنّ العديد من الأضرحة التاريخية في موقع الدفن غير مسجلة كآثار، ممّا يعرضها لخطر الهدم، وطالبوا بحماية القاهرة التاريخية، والحفاظ على قيمتها المعمارية.

القيمة التراثية وجدل التحديث

ردّ العديد من المهتمين على بيان الدولة بأنّ مفهوم القيمة يتجاوز تلك الآثار المسجلة، فالعديد من المقابر المهددة بالإزالة تتمتع بطراز معماري مميز، كما أنّ "مدينة الموتى" جزء من معالم القاهرة التاريخية، التي سجلتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) في العام 1979 كموقع تراثٍ عالميّ. ولكن في الأعوام القليلة الماضية كررّت اليونسكو شكواها من "الإهمال الذي تتعرض له المنطقة، مهددة بشطبها من قائمة التراث العالمي، وبنقلها لقائمة التراث المعرّض للخطر".

دافعت الحكومة عن خطتها للتحديث

بحسب الباحث في الآثار المصرية (محمود مرزوق)، فإنّ قرافة القاهرة "أقدم تاريخياً" من مدينة القاهرة نفسها؛ ذلك أنّ القرافة بدأت مع دفن أول مسلم في مصر، وكان ذلك تحت سفح المقطم في بدايات دخول الإسلام مصر، أي قبل بناء مدينة القاهرة بزمن طويل، ونوّه الباحث إلى أنّه على مدى مئات الأعوام، اتسع نطاق قرافة القاهرة التي تتصل جغرافياً رغم تقسيمها إلى مجموعات كلّ منها ترتبط باسم عَلم من الأعلام، ومن ذلك مثلاً قرافة الإمام الشافعي، وقرافة الليث نسبة إلى الإمام الليث بن سعد، وقرافة سيدي جلال نسبة إلى جلال الدين السيوطي...، وهكذا.

أصرّت الحكومة على أنّ تطوير شبكات الطرق، وإزالة المناطق العشوائية؛ يصب في المصلحة العامة، وأكدت أنّ الآثار في القاهرة التاريخية ستبقى سليمة

ويقول مرزوق: إنّ "مفهوم القيمة متسع جداً ومتنوع؛ فهناك قيمة اقتصادية وقيمة تراثية وقيمة تاريخية وقيمة فنية، وهكذا فالقيَم نفسها متعددة". وعليه، بحسب مرزوق، فمن التسطيح تقييم المبنى عبر البحث عمّا إذا كان مسجلاً في عِداد الآثار أم لا، فإذا لم يكن مسجلاً فلا مانع من إزالته!.

التساؤل هنا هو هل ستستجيب الدولة لآراء المختصين والمهتمين بالتاريخ والتراث المصري، وتقوم بتطويع هذا التطوير لتحافظ على جزء مهم من معالم القاهرة التاريخية؟ وهل ستدفع مهندسيها للبحث عن حلول جديدة؛ للحيلولة دون المساس بكل ما له قيمة تاريخية"؟

الواقع أنّ إشكالية التطوير وتحديث شبكة الطرق سوف تصطدم كثيراً بطابع القاهرة، كمدينة قديمة، تجد فيها أثراً تحت كل حجر، كما أنّ انتشار العشوائيات وأوكار الجريمة حول تلك المناطق التاريخية العريقة يزيد الأمر تعقيداً، ممّا يتطلب حلولاً إبداعية.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية