
يبدو المشهد السياسي في وسط آسيا شديد الاحتقان، في ظل التوترات المتصاعدة بين باكستان وحكومة طالبان في أفغانستان، في ظل السيولة التي باتت تميز الخط الحدودي (خط دورند) بين البلدين، بالتزامن مع أنشطة الجماعات المسلحة، وتراجع الأهداف الإيديولوجية المشتركة بين البلدين.
هذه البيئة الجغرافية المعقدة على طول الحدود التي تقدر بنحو (2640) كيلو متراً، والتي تضم تضاريس جغرافية وعرة ومتداخلة، ما تزال أجزاء منها غير محددة، تنذر في الوقت الراهن بانفجار صدام عسكري بين البلدين، حيث تشهد المناطق الحساسة بين الطرفين عند معبر طورخم بإقليم خيبر، ومعبر تشمن بإقليم بلوشستان، نشاطاً ملحوظاً لتنظيم ولاية خراسان (ISK)، مع تبادل الاتهامات بين كابل وإسلام آباد بتمرير العمليات الإرهابية.
ولاية خراسان وجذورها الباكستانية
تأسس تنظيم داعش ـ خراسان في العام 2015، وبرز في آب (أغسطس) 2021 بشكل أكثر عنفاً، أثناء قيامه بتفجير أثناء الانسحاب الأمريكي من مطار كابل، أسفر عن مقتل نحو (170) أفغانياً و(13) جندياً أمريكياً. كما أنّ الجماعة مسؤولة عن مقتل أكثر من (140) شخصاً في الهجوم على قاعة للحفلات الموسيقية في موسكو، وتفجيرين في إيران.
تألف تنظيم داعش- خراسان من فصيلين منفصلين عن حركة طالبان الباكستانية (TTP)، بمنطقتي أوراكزاي وباجور، وبرز تنظيم داعش باعتباره التنظيم الأكثر عنفاً في أفغانستان وباكستان، متحدياً حركة طالبان الأفغانية. وقد حصل التنظيم على مبايعة دعم القاعدة، وحركة طالبان باكستان، والحركة الإسلامية في أوزبكستان.
ونجح تنظيم داعش- خراسان في تجنيد طلاب جامعيين في كابل وقندهار وننجرهار، ومئات المتطرفين في باكستان، ونجح في توجيه ضربة في العام 2015 ضدّ الطائفة الإسماعيلية، في هجوم صفورة تشورانجي، الذي أوقع عدداً كبيراً من الضحايا.
وسرعان ما دبّ الخلاف بين داعش- خراسان، وحركة طالبان الباكستانية، بداعي دعم الأخيرة للقومية الإقليمية، وانحيازها للزعيم الأعلى لحركة طالبان الأفغانية، هبة الله آخوند زاده، بالتزامن مع صراعه مع داعش في أفغانستان. وعليه، هاجم تنظيم داعش- خراسان مراراً وتكراراً إيديولوجية طالبان، في حملته الدعائية، وصوّر اتفاق الدوحة 2020 مع الولايات المتحدة على أنّه خروج عن الجهاد الحقيقي من أجل استعادة السلطة في أفغانستان.
وفي أواخر شهر أيّار (مايو) الفائت وصف قاري شعيب باجوري، عضو مجلس قيادة حركة طالبان الباكستانية، مقاتلي داعش- خراسان بأنّهم متمردون متطرفون، وأكد أنّه لا يوجد أيّ اتفاق سرّي مع داعش. وأضاف أنّ "حركة طالبان الباكستانية لا تريد حرباً مع داعش- خراسان، وأنّها تركز على هدفها الأساسي، المتمثل في إقامة دولة دينية على غرار حركة طالبان الأفغانية في باكستان.
وفي المقابل، أصدر تنظيم داعش- خراسان بياناً في 2 حزيران (يونيو) الفائت، وصف فيه طالبان الباكستانية بـ "الميليشيا الديوبندية القبلية"، واتهمها بخيانة الجهاد الإسلامي لصالح أجندة محلية ضيقة الأفق. كما وصف تنظيم داعش- خراسان نائب زعيم حركة طالبان الباكستانية السابق الشيخ خالد حقاني بأنّه "رجل دين غير متعلم"، وقال إنّه يفتقر إلى المعرفة الدينية ورفض انتقاداته لداعش، ووصفها بأنّها لا أساس لها من الصحة. كما احتج تنظيم داعش- خراسان على مبايعة حركة طالبان الباكستانية لهبة الله آخوند زاده، ووصفها بأنّها جماعة مارقة تسيطر على إمارة صغيرة فاسدة في أفغانستان.
هذه الأجواء المحتقنة يبدو فيها الجميع في مواجهة الجميع، وهو ما دفع الجيش الباكستاني إلى توجيه ضربات لأهداف تتبع طالبان الباكستانية وداعش داخل الحدود الأفغانية.
اتهامات أفغانية وتوعد من الجيش الباكستاني
في الأول من تشرين الأول (أكتوبر) الفائت اتهمت حكومة طالبان الأفغانية باكستان بإيواء الفرع الإقليمي لداعش (تنظيم الدولة في ولاية خراسان)، زاعمة أنّها ألقت القبض على أعضاء رئيسيين في التنظيم متورطين في الهجمات التي طالت أنحاء متفرقة من البلاد .
وشهدت أفغانستان عدة تفجيرات وأحداث عنف عن طريق تنظيم الدولة، كان أبرزها تفجير انتحاري جرى في كابل في شهر أيلول (سبتمبر) الماضي، وأسفر عن مقتل (6) أشخاص.
المتحدث باسم حكومة طالبان ذبيح الله مجاهد، قال إنّ القوات الخاصة لطالبان ألقت القبض على عناصر من جماعة داعش التي وصفها بالمتمردة. وزعم أنّ الانتحاري المزعوم دخل أفغانستان، بعد أن تلقى تدريباً في أحد المعسكر بباكستان، في حين أنّ آخرين اعتقلوا في عدة مداهمات، عادوا من باكستان مؤخراً.
وقال ذبيح الله مجاهد: إنّ العمليات العسكرية التي شنتها طالبان أخرجت تنظيم داعش من أفغانستان، لكنّ التنظيم أنشأ قواعد عمليات ومعسكرات تدريب جديدة في باكستان. وأضاف: "من هذه القواعد الجديدة يواصلون التخطيط لشن هجمات داخل أفغانستان وفي دول أخرى".
تصريحات طالبان أدّت إلى مزيد من التدهور في العلاقات بين كابل وإسلام آباد، التي تشهد توترات منذ عودة حركة طالبان الأفغانية إلى الحكم، وتلقي باكستان باللوم في الهجمات المتزايدة على أراضيها على أفغانستان، وتؤكد أنّ حكومة طالبان فشلت في القضاء على مسلحي ولاية خراسان المتمركزين داخل أراضيها.
وكانت باكستان قد أصدرت مع الصين وإيران وروسيا بياناً رباعياً في الأسبوع الأخير من شهر أيلول (سبتمبر) الفائت، على هامش الدورة السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة، أعربت فيه عن "قلقها العميق إزاء الإرهاب والوضع الأمني في أفغانستان"، في ظل أنشطة الجماعات المسلحة، وعلى رأسها تنظيم داعش وحركة طالبان الباكستانية، التي تتمركز في أفغانستان، وتشكل تهديداً خطيراً للأمن الإقليمي.
جدير بالذكر أنّه في أيّار (مايو) الماضي اجتمع وفد برئاسة وزير الداخلية الباكستاني محمد خورام آغا مع نائب وزير الداخلية لحكومة طالبان المؤقتة في أفغانستان، مولوي محمد نبي عمري، وناقشا الهجمات التي طالت المهندسين الصينيين في 26 آذار (مارس) 2024، حين قتل (6) أشخاص، بينهم (5) مهندسين صينيين، في هجوم انتحاري على قافلة مركبات في منطقة شانجلا بإقليم خيبر بختونخوا في باكستان.
وفي وقت لاحق قال المتحدث باسم الجيش الباكستاني اللواء أحمد شريف في مؤتمر صحفي: إنّ الهجوم الانتحاري على المهندسين الصينيين تمّ التخطيط له في دولة أفغانستان المجاورة، وإنّ الانتحاري أفغاني أيضاً.
ويبدو أنّ أفغانستان لم تقدم الدعم المعلوماتي المطلوب؛ الأمر الذي دفع باكستان إلى اتهام الأولى بدعم الأنشطة الإرهابية عبر حدودها، وإيواء طالبان الباكستانية الحليف الاستراتيجي لكابل.
تخبط الجماعة الإسلامية
لم تستطع الجماعة الإسلامية الباكستانية، الذراع السياسية للإخوان المسلمين، بناء موقف سياسي واضح، وتميزت مواقفها تجاه السيولة العسكرية في الإقليم بالارتباك والرعونة، وعدم القدرة على قراءة المشهد.
في البداية، ثمّن سراج الحق، الأمير السابق للجماعة في باكستان، وصول طالبان للحكم، وطالب بلاده ببدء صفحة جديدة، والتعاون مع كابل، من أجل إنجاح نموذج إسلامي واعد، يمكن تعميمه في الإقليم. كما انتقدت الجماعة الإسلامية الهجمات التي شنها الجيش الباكستاني على قواعد طالبان الباكستانية في أفغانستان. وزعمت الجماعة أنّ التعاون العسكري مع كابل هو الطريق الأمثل لبناء تحالف استراتيجي في آسيا.
من جهة أخرى، غضّت الجماعة الإسلامية الطرف عن أنشطة داعش ـ خراسان، والتي اتهمت الأحزاب السياسية الدينية، بما فيها الجماعة، بالعمل ضد تعاليم الإسلام. ودعت الجماعة الإسلامية إلى حوار لتوحيد كل القوى الإسلامية من أجل معركة الجهاد الأكبر في فلسطين.
وعلى الرغم من أنّ تنظيم داعش ـ خراسان نفذ عدة هجمات في باكستان، بما في ذلك هجوم انتحاري على تجمع حاشد في باجور العام الماضي، خلّف ما لا يقلّ عن (54) قتيلاً، من بينهم (23) طفلاً، إلّا أنّ الجماعة الإسلامية حمّلت الحكومة الباكستانية المسؤولية في انفلات الوضع الأمني في البلاد.
كما رفضت الجماعة الإسلامية توجيه الاتهامات لطالبان الباكستانية، والتي تحملها تقارير أمنية، مقتل (39) شخصاً على الأقل هذا العام، في هجمات وتفجيرات متنوعة طالت رجال الأمن في إقليمي خيبر بختونخوا وبلوشستان الباكستانيين. وواصلت الجماعة دعم طالبان الأفغانية على الرغم من تحالفها المعلن مع طالبان الباكستانية، التي ازداد نشاطها المسلح في المناطق الحدودية الباكستانية منذ العام 2021.
الجماعة الإسلامية استفاقت على ضربة مربكة في 14 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري، فقد استهدفت داعش ـ خراسان زعيم الجماعة الإسلامية في باجور بإقليم خيبر بختونخوا، صوفي حميد، وأردته قتيلاً.
وبحسب الشرطة الباكستانية، فتح رجلان ملثمان على دراجة نارية النار على صوفي حميد، بينما كان يغادر المسجد بعد صلاة المغرب. وأضافت الشرطة أنّ المهاجمين لاذا بالفرار بعد إطلاق النار، وذلك في منطقة باجور الواقعة بالقرب من الحدود مع أفغانستان. كما أعلن تنظيم داعش ـ خراسان مسؤوليته عن الحادث عبر منصة التواصل الاجتماعي Telegram.
وعليه، يمكن الكشف عن مواطن الخلل البنيوي داخل العقل السياسي للجماعة الإسلامية، التي لا تجرؤ على مواجهة المكونات الميليشياوية، أو مواجهتها إيديولوجياً، أو سياسياً، ذلك أنّها تخاطب دوماً نزعة التشدد الديني، وتعزف على تناقضات الوضع السياسي المتقلب في المنطقة الأكثر تعقيداً من حيث تداخل المصالح وتنوع مصادر الإرهاب وجماعاته.