هل أضاء لنا الغرب النّفق المظلم الذي عبره؟

هل أضاء لنا الغرب النّفق المظلم الذي عبره؟


22/11/2020

يقول لنا تاريخ العالم إنّ كثيراً من الصراعات التي كبّدت البشرية فاتورة باهظة في الدماء، قد أريقت تحت عناوين نصرة الدين.

تسع حملات صليبية امتدت من القرن الحادي عشر وحتى الثالث عشر، رافعة شعار تطهير بيت المقدس من الكفار، حسبما كانوا يصفون المسلمين، قبل أن ترتد روح التعصب إلى الداخل الأوروبي، لنرى تحت العنوان نفسه، ولكن داخل أوروبا المسيحية حروباً متتابعة في فرنسا، اشتعلت أثناء القرن السادس عشر بين الكاثوليك والبروتستانت من أبناء الدين الواحد.

عندما نتأمل ظاهرة التطرف التي تقود للإرهاب سواء في التجربة المسيحية أو الإسلامية أو الإنسانية نكتشف أنّ منبعها واحد

من مشاهد تلك الحرب الدالة، التي تكررت بدءاً من القرن الثاني عشر في فرنسا، أنّه عام 1144 أثناء نقاش لاهوتي بين الأكليروس والهراطقة، هبّ الحاضرون فجأة، وأخرجوا الهراطقة من قاعة المحاضرات، ثم أوقدوا ناراً عظيمة، وطرحوهم فيها -الهراطقة هنا، من كانوا يرددون أسئلة اللوثرية والكالفينية، وغيرها من عناوين المذهب البروتستانتي، لم يكن البروتستانت أكثر تسامحاً مع غيرهم بالطبع؛ فالعنوان الناظم لتصورات الناس وسلوكهم في تلك الحقب، هو التعصب، الذي أشعل حروب المئة عام بين فرنسا وإنجلترا، وحرب الثلاثين عاماً بين الكاثوليك والبروتستانت فيما يعرف اليوم بألمانيا.

اقرأ أيضاً: دين المسلمين وأيديولوجيا الإسلاميين

التأمّل في التجربة الغربية قد يعطينا العديد من الدروس التي قد تفيد في صياغة رؤية جديدة لمكافحة التطرف والإرهاب.

غرقت أوروبا في الصراعات الدينية والمذهبية التي اختلطت بطبيعة الحال مع أهداف سياسية واقتصادية؛ فالدين في النهاية يبقى ظاهرة اجتماعية، تتأثر بكل تلك السياقات، دفعت أوروبا فاتورة باهظة، وامتدت عصور الظلام فيها حتى أدركت ما لم يستطع كثيرون في عالمنا العربي والإسلامي أن يدركوه بعد.

ظلّت المعادلة الحاكمة للدولة في الغرب: هي هذا التطابق بين المعتقد الديني والشكل السياسي للدولة، الذي تلخصه مقولة "أمة واحدة دين واحد ملك واحد".

التطرف يبدأ مع إهدار منطق النسبية واعتقاد أنّ ما يعرفه الشخص عن دينه هو المطلق الوحيد

حتى كاتب اللاهوت الفرنسي، جوزيف لوكريل، المؤرخ والباحث، كتب يقول: "إنّه رغم أنّ المسيحية والإسلام، في الواقع، قوتان متعارضتان، لكن بينهما من النقاط المشتركة على المستوى السيسيولوجي، ما يفوق قدرتنا على التصور، فكلاهما يقوم على الوحدة الممكنة بين السياسي والديني والروحي والزمني؛ لذا كانا يتشابهان كما رأينا في طريقة التوسع". 

ظلت أوروبا المسيحية تقرأ ما قاله المسيح، عليه السلام: "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، في تأكيد لانفصال ملكوت السماء عن ملكوت الأرض، أو انفصال الزمني عن الروحي، ولم يمنعها ذلك عن الدعوة لثيوقراطية دينية، قبل أن تهتدي بالتجربة المريرة إلى علمانية تراوحت بين لائكية متطرفة في فرنسا، وعلمانية أكثر تسامحاً مع الدين في أماكن أخرى من أوروبا.

اقرأ أيضاً: النبي الشاكّ والإله المتسامح

عندما نتأمل ظاهرة التطرف التي تقود إلى الإرهاب، سواء في التجربة المسيحية أو الإسلامية، أو قل الإنسانية، سنكتشف أنّ منبع التطرف واحد.

ضعف ملكة أو ثقافة التسامح، التي ترى معه فئة أو فريق فيما تعتقده الصواب المطلق الذي ينبغي أن تحمل عليه العالم.

إنّ إدراك قيمة التنوع ينتج في النفس شعوراً بالتسامح يكفي لقبول العالم بكل ما فيه

تباينت فرق المسيحية في مواجهة المرتدين أو المهرطقين، بين من اعتقدوا في مرحلة في ردع المرتدين أو المهرطقين، بسيف الروح الذي كان يرتب عقوبات أدبية؛ كالحرم، أو سيف الحديد، كما كان يفعل ملوك المسيحية الذين استلهموا بعض نصوص العهد القديم فجعلوها مرجعيتهم، التي أطلقت أيديهم في استخدام سيف الحديد وتعطيل سيف الروح.

وبعيداً عن سيف الروح، أو سيف الحديد، فهما في النهاية يستدعيان الشعور بالعقاب والبطش.

اقرأ أيضاً: الإسلام بين الدين الكامل والنظام الشامل

فإنّ التطرف يبدأ مع إهدار منطق النسبية واعتقاد أنّ ما يعرفه الشخص عن دينه هو المطلق الوحيد، دون أن يعي أنّ لكل قوم حيزهم الخاص من هذا المطلق، وبالتالي سيبقى التنوع قائماً في الدنيا، في المشارب والاتجاهات والمعتقد الديني، وأنّ من يحاسب على المعتقد في النهاية، هو الله بارئ هذا الكون وخالق هذا الإنسان.

ولعلّ من أروع ما حفظته لنا التجربة الغربية، فيما عرف بعصور الإصلاح، تصويراً لقيمة التسامح، هذا النص الذي كتبه جاكوب بومبيه (1575-1624)، في تصوير القبول بالتنوع الديني والقدرة على التعايش معه في سلام، يقول:

الإكراه الذي يسعى إليه التطرف يهدر أهم قيمة للدين كرسالة للتحرير من عبودية أي شيء غير الله

"فكما أنّ الأزهار من كل صنف ونوع تنمو وتتجاور على الأرض، من دون أن ينشأ بينها شجار بشأن الألوان والعطور والنكهات، وكما تستسلم الأزهار للأرض، والشمس للمطر، والهواء للحرّ والبرد، فتنمو كل بحسب ماهيتها وميزاتها، كذلك حال أبناء الله الذين يملكون فيضاً متنوعاً من المواهب والمعارف، مصدرها واحد هو الروح القدس، فما أحراهم أن يبتهج بعضهم إلى جنب بعض بعجائب الله، ويشكروا العليّ على حكمته، أم تراهم يتشاجرون حول الذي يعيشون فيه، وهم أنفسهم من طبيعته".

في الحقيقة، لم يكفوا أبداً عن الشجار والحرب والقتل!

اقرأ أيضاً: متى تفلت المجتمعات من ثقبها الأسود؟

اهتدى الرجل عبر عبادة التفكر المهجورة لدى كثير من المسلمين لسنّة كونية من سنن الله، في كونه سنة التنوع، التي يؤكد عليها كتاب الله المسطور "القرآن الكريم"، وكتاب الله المنظور "هذا الكون الهائل الحافل بكل تلك الآيات ويدعونا للتسامح". 

إنّ إدراك قيمة التنوع ينتج في النفس شعوراً بالتسامح، يكفي لقبول العالم بكل ما فيه.

إن الإكراه الذي يسعى إليه التطرف يهدر أهم قيمة للدين؛ كرسالة للتحرير من عبودية أي شيء غير الله، كتب أحد مفكري عصر النهضة الأوروبية قسطنطيوس: "الدين هو الشيء الوحيد الذي اختارته الحرية مقراً لها، إنه أكثر الأمور ارتهاناً للإرادة، ويستحيل إكراه أحد على عبادة ما لا يريد".

كل الحركات المتطرفة تتوخى بدأب مدهش محاولة إكراه الناس على معتقد أو تصور

ما يعني أنّ الروح الدينية وروح الاضطهاد هما على طرفي نقيض، حتى عندما تستهدف هذه الأخيرة الذود عن الدين، كما يعتقد أو تعتقد كل الحركات المتطرفة التي تتوخى بدأب مدهش محاولة إكراه الناس على معتقد أو تصور.

لن تبني ثقافة التسامح التي تنهض أرضية لازمة لمكافحة التطرف والإرهاب، سوى إيمان راسخ بقيمة الحرية والتنوع والقبول بهما.

اقرأ أيضاً: ملامح سقوط المشروع الإخواني

ويبقى السؤال: هل يلزم لنا كمسلمين أن نمرّ عبر النفق المظلم نفسه الذي مرّ عبره الغرب لنحظى بالمعرفة اللازمة للولوج للمستقبل وندفع الفاتورة نفسها، أم نقرأ بعناية دروس الحروب الدينية التي لم تفلح في شيء قدر نجاحها في ترسيخ ثقافة التسامح، التي حمت الغرب في العصر الحديث، إلى حد كبير، من نمو نزعات التطرف والإرهاب التي تتمسح بنفس العناوين الدينية القديمة في منطقتنا؟

الصفحة الرئيسية