السؤال المعلق: من قتل أسمهان؟!

السؤال المعلق: من قتل أسمهان؟!


09/12/2018

محمد الحمامصي

يروي الكاتب الصحفي فوميل لبيب على لسان فؤاد الأطرش الشقيق الأكبر لفريد واسمهان الأطرش قصة "اسمهان" انطلاقاً من سيرة أسرة كانت حياتها سلسلة من المحن، حيث كان عاهلها أميرا يتقلد مقعد الزعامة والسلطان في جبل الدروز، تولى أكثر من منصب قيادي في زمن الامبراطورية العثمانية ثم زمن الاحتلال الفرنسي للبنان، الأمر الذي عرض الأسرة لمخاطر عديدة انتهت بها إلى مصر تكافح من أجل البقاء. ليدخل بنا إلى حياة اسمهان فنانة ومطربة وسياسية وشخصية متمردة لها علاقاتها المعروفة في الأوساط السياسية والإعلامية والفنية حيث كانت ملء السمع والبصر في مصر والعالم العربي كله، وهي حياة لا تختلف في تقلباتها ومحنها عن حياة الأسرة، فما أن بدأت خطواتها الأولى نحو عالم الطرب والفن حتى أرغمها أخاها ـ راوي القصة ـ على الزواج من الأمير حسن الأطرش، فأدخلها الزواج معترك السياسة، لتنفصل وتعود إلى حريتها كمطربة وفنانة، وتتزوج وتطلق مرة أخرى، لتعود لمعترك السياسة.. وهكذا.

الرواية التي صاغها لبيب بأسلوب سردي ممتع ومشوق، حتى ليبدو أنه يكتب رواية خاصة من تفاصل حياة اسمهان وأسرتها، بادرت دار الجديد بإعادة طبع نسختها الأصلية دون إضافة أو حذف، والتي لم يتم إعادة طبعها منذ صدورها في بيروت في سبعينيات القرن الماضي، ولم يلتفت إليها أحد على الرغم من أن الكتابات لم تتوقف عن محاولة قراءة وتأويل وتفسير التفاصيل الدقيقة لسيرة اسمهان الفنية والسياسية والشخصية الخاصة، ختاما بحادثة وفاتها التي أثارت ولا تزال تثير التساؤلات، ففي أثناء سفرها إلى رأس البر صباح الجمعة 14 يوليو 1944 ترافقها صديقتها ومديرة أعمالها ماري قلادة، فقد السائق السيطرة على السيارة فانحرفت وسقطت في الترعة، حيث لقت مع صديقتها حتفهما أما السائق فلم يصب بأذى وبعد الحادثة اختفى، وبعد اختفائه ظل السؤال عمن يقف وراء موتها دون جواب.

الرواية الحقيقية

ترسم الرواية عبر الكثير من المواقف والأحداث وتفاصيل العلاقات الخاصة والعامة في الفن والسياسة وغيرها، ترسم لآسمهان صورة شخصية تؤكد على أصالة موهبتها وعبقريتها كمطربة وفنانة، وتعتز بذاتها وشخصيتها وكرامتها وأصولها، طموحة وكريمة حد الإسراف والسفه ومترفعة عن كل دنيئة يمكن أن تنتقص من اعتزازها بنفسها، شخصية عصية على التقييد، تواقة دائما إلى الحرية.

يعلن فؤاد الأطرش صاحب الرواية أن وراء قيامه بسرد سيرة أسرته وتحديدا أخته المواقف التي وقفها عدد من الصحافيين بعد وفاة شقيقته اسمهان "أمل أو آمال الأطرش" وإذاعة ما أذاعوه من أمرها، وإشاعة ما أشاعوا من سيرتها "كان لهاتيك المواقف المدمرة أثر سيء، بالغ السوء في تشويه أعمالها وتلويث سيرتها، وذكر أشياء ملفقة هي من نسيج الخيال، أو الحقد، أو الكراهية، أو الطمع في الكسب من طريق التعرض لذوي المواهب، والتحدث عن عن النابغات والنابغين. وأكبر دليل على أن تلك الروايات والأحاديث نسجت في الظلام، وبوحي من نفوس مظلمة، أن مروجيها وكاتبيها تخلوا عن حقيقتهم وتحللوا من تبعاتهم، فلم يذكر أحد منهم اسمه الصريح، بل كانوا يتوارون جميعا خلف المجهول".

الهروب إلى القاهرة

يتتبع فؤاد سيرة الأسرة من جبل الدروز إلى ديمرجي فبيروت ودمشق هروبا إلى القاهرة بعد ثورة الدروز وسلطان الأطرش على الفرنسيين، لتبدأ في القاهرة حياة الفقر والعوز حتى ينقذها المليونير الأمريكي البارون إيكرين الذي عرض على الأميرة علياء المنذر تبني أولادها والسفر لأمريكا ليعيشوا جميعا في قصر يخصصهم لهم، لكنها رفضت فاقترح أن يرسلها لها مائة دولار شهريا فوافقت، الأمر الذي مكنها من حفظ وحماية أولادها.

وتبدأ مواهبة الغناء تتجلى على الصغيرين فريد وأمل، بعد أن أصبح بيت الأسرة قبلة لكبار الموسيقيين والملحنين فريد غصن وزكريا أحمد وداوود حسني ومحمد القصبجي، هذا الأخير الذي وصف صوت أسمهان عندما سمعه للمرة الأولى بـ "صوت من الجنة". لقد قدرت الأم أصالة موهبة ولديها فدعمتهما بالتقرب من رواد الموسيقى والغناء وقتئذ، وهيئت لهما المناخ لصناعة مجدهما.

ويبدأ فريد يتجه للدراسة والغناء بين معهد الموسيقى العربية ومحطات الإذاعات الأهلية، وهنا يقول فؤاد "بدأت معالم الطريق تتضح وتبين. وسهرات الموسيقيين عند فريد لم تعد مجرد حفظ ألحان أو ترديدها أو تناقل الأخبار عن محطات الإذاعة والأهلية ومهازلها. إنما صار للحديث مدار جديد تركه فريد ينمو مع الليالي.. كان المدار أمل فالاجماع انعقد رائعاً على أنها موهوبة، وكان لابد من قول فصل يصدر في هذا الموقف ليعرف فريد أي طريق يمكن أن تضع أمل قدميها عليه. وكان ينبغي أن يصدر القول الفصل عن ذي تجربة تتفوق على كل تجارب المترددين على بيت الأسرة الفنانة ولم يكن هناك غير داود حسني".

يسمع داود حسني صوت أمل ويرى فيه صوتا خارقا ويقرر أن يعلمها ويطلب تغيير اسمها لـ "اسمهان"، هكذا البداية حتى كان "يوم طرق الباب طارق ونقل أمل من مرحلة في حياتها إلى مرحلة.. كان مدير شركة كولومبيا وقد أقبل في مجموعة من الموسيقيين: زكريا أحمد والشيخ محمود صبح وداود حسني وفريد غصن والقصبجي، وجلسوا كأنهم لجنة امتحان حول أمل يستمعون إليها، ومدير الشركة لا يفهم معنى الغناء ولكنه أخذ بالصوت. فلما أفتوا بالاجماع بأنها عظيمة وقع المدير مع أمل عقدا بتسجيل خمس عشرة أسطوانة مقابل 20 جنيها للأسطوانة الواحدة".

منذ ذلك اليوم كما يروي فؤاد سوف تغني أمل أو اسمهان ويستمع الناس لها كما يستمعون لأمل كلثوم وتزامل أخيها فريد وتلازمه بعد أن أصبح مطلب الملحنين كبارهم وصغارهم، مشهورهم ونكرتهم، بل سوف تغني على مسرح دار الأوبرا المصرية ولم تكمل بعد عامها الخامس عشر، لتغني وتبدع ويصفق الجمهور ويستعيدها فتعيد وتطرب.

هذه هي الحقيقة

وتلفت رواية فؤاد إلى علاقة اسمهان التي بدأ للتو سطوع نجمها بأم كلثوم "أحب الناس إلى اسمهان كانت أم كلثوم. وكانت أم كلثوم تزور الأسرة فتتوسل إليها أسمهان أن تغني وتجلس على السجادة عند قدميها وتسمعها بكل جوارحها. ودعاها محمد عبد الوهاب مرة في قصر السيدة زبيدة شهاب، وشهد اللقاء فريد الأطرش وكامل إبراهيم الذي كان أشهر عازفي القانون في ذلك الحين.

ويعترف فؤاد بأنه وراء زواج اسمهان من ابن عمه حسن الأطرش، وأن ذلك تم بدافع من تقاليد وعادات الدروز، حيث خاف على أخته أولا من أن تعمل بالسينما بعد أن سطع نجمها كمطربة وثانيا من أن تغرم وتتزوج من خارج نطاق الدروز، فيسافر إلى أبيه فهد الأطرش دون علم من والدته وأخوته ليعرض الأمر عليهم، ويخشى أن يصارح أبيه بالأمر فيبوح به لابن عمه الذي يبادره بأنه سوف يتزوجها هو، لتبدأ الاستعدادات.

فشل الزواج

تنقلب أحوال الأسرة رأسا على عقب، وترضخ للضغوط التي فرضها فؤاد، وتستسلم اسمهان بشروط أولها أن تسكن دمشق، وثانيها ألا تلبس الحجاب وثالثها أن تصحب معها فؤاد عوضا لها عن أمها ورابعها أن تقضي شتاء كل عام في مصر. لكنها سرعان ما تتنازل عن شرطيها الأول والثاني وتذهب للعيش في الجبل لتلعب دورا إلى جانب زوجها في مهادنة الفرنسيين لتحصل لقومها على ما يريدون بالكلمة الطيبة، ولم شمل أبناء العمومة والخوؤلة تصفي القلوب مما فيها من حزازات قديمة أو جفوات مائلة، ليرتفع نجمها في السويداء عاصمة الجبل.

لكن روح الحرية والفن وعبقريته في اسمهان تحول دون استمرارها، بالاضافة إلى أنها لم تعد تر في زواجها إلا مصالح مشتركة، وتواجه زوجها "لن أعود إلى الجبل يا أمير. إنني تزوجت نزولا على مشيئة فؤاد الذي سلط على رقبتي سيفا، وحاولت أن أحبك لأعيش حياة هنيئة وعملت معك، وتعبت معك وسهرت معك. معذرة لا أريد أن أمن عليك بما كان، ولكني أجزم أنني لم أنس فني. كان استماعي إلى اسطوانة يثير جنوني. أما أخبار الغناء وفريد وأم كلثوم فهي أحب إليّ من كل شيء. أحب إليّ من أخبار الفرنسيين والدروز والمعارك. صدقني هذه هي الحقيقة".

العودة إلى الحرية

ويواصل فؤاد روايته متغلغلا في حياة اسمهان التي ما أن وصلت إلى القاهرة حتى أحست أنها كانت سجينة وحصلت على حريتها، لتبدأ حياة يلخصها فؤاد قبل أن يدخل في التفاصيل في تساؤلاته "هل ترى إلى الطفل يحرم من ثدي أمه فإذا عاد إليه عاد وبه سعار؟ ثم هل ترى إلى بخار يحتبس في إناء ثم من طول الاحتباس يندفع في انفجار؟ وهل ترى إلى مدمن الكأس نأت عنه ولاحت فجأة فاندفع إليها بجميع الحماسة ولهفة الشوق ومنى اللقاء؟ هكذا كانت أسمهان حين عادت إلى الحرية..".

ويروي فؤاد حكايات اسمهان بعد أن تقرر الاقامة في فندق مينا هاوس من شرب الخمر ولعب القمار وبذخ وسفه في الانفاق بعد أن اجتمع إليها أصدقاء وصديقات كانوا يغرونها بكل نزوة ـوفقا لفؤادـ وسط محاولات لاعادتها لرشدها. في الوقت الذي تتوسع فيه دائرة معارفها داخل أروقة النفوذ الاقتصادي والسياسي والاجتماعي وقصور الأسرة الملكية في مصر.

هل كانت جاسوسة؟

ويكشف فؤاد أنه أول من كاشفته اسمهان بالمهمة التي اختارتها لها المخابرات البريطانية في الشرق الأوسط لاقناع زعماء جبل الدروز بعدم التعرض لجيوش الحلفاء إذا بدأت هذه الجيوش احتلال سوريا، وفي حوارهما وردا على سؤاله الاستنكاري "يعني جاسوسة" قالت اسمهان "لست جاسوسة. أكون جاسوسة إذا كنت أخدم قضية ينصرف غنمها إلى وطن غير وطني، أما أن أسعى إلى أهلى وأقنعهم بأن سكوتهم يبقي على حياتهم. أما أن أعرف مواقع المحتلين في بلادي فأسلمها إلى أعدائهم وأجنب قومي ويلات الغارات وهجوم الدبابات وطلقات المدافع فهذا غنم سينصرف إلى أهلي أولا، ويفيد منه الحلفاء بعد ذلك". وزادت "لست جاسوسة يا فؤاد لأن سلامة قومي هي التي تملي عليّ ما أنا مقدمة عليه".

إن رقابة فؤاد ومحاولاته تقييد حرية اسمهان باعترافه أخذت أشكالا كثيرة، وباءت جميعها بالفشل، لكن هذه المهمة الاستخباراتية شكلت مرحلة مختلفة في حياتها، مرحلة محفوفة بمخاطر جمة، وربما تكون أحداثها وتفاصيلها التي يكشف عنها فؤاد هي ما دفعه في النهاية إلى طرح نفس التساؤلات التي طرحتها وتطرحها الصحافة إلى الآن حول مقتلها، يختم فؤاد بهذه التساؤلات:

هل قتلوها؟

ومن هم الذين قتلوها؟

قد يكون الملك فاروق هو الفاعل.. إن اسمهان تعرف من أسرار أمه حين كانت في فندق الملك داود الشيء الكثير. فهل قتلها ليطوي معها الفضائح إلى القبر؟

قد يكون العاشق المجهول الذي حاموا حوله بالشبهة والتلميح، وقد مات في سيارة كما ماتت وعند الماء كما كانت نهايتها، قتلها قبل أن يتضح أمره معها عند عشيقته الأخرى؟

وقد يكون الانجليز والفرنسيون.. إنهم حاولوا قتلها من قبل، في بيروت مثلا، ففي صدرها أسرار وأسرار وينبغي أن تصمت خزانة الأسرار؟

وقال قائل: بل قتلها الأمير حسن بالاشتراك مع فؤاد. داست الأصول وهوت بالمعول على الشجرة العريقة فحق عليها القتل؟ قالوا وقالوا وقالو ولكن الأقدار أقوى من كل هؤلاء وهي التي قالت كلمتها وأصدرت حكمها".

عن صحيفة "العرب" اللندنية

الصفحة الرئيسية