كيف وصلت السلفية المتشددة إلى تونس؟

الإسلام السياسي

كيف وصلت السلفية المتشددة إلى تونس؟


14/12/2017

استفادت التيارات التي تتبنى السلفية المتشددة في تونس من مناخ الحرية وهامش التحرك وحالة التسيب التي تلت الثورة لإعادة مأسسة تياراتها وإعادة التموقع والبناء من جديد؛ تسلحاً وتنظيماً وتوزيعاً للمهام والأهداف، وكانت النتيجة للأسف مروّعة في أكثر من مناسبة: مئات الشهداء من الجيش والشرطة والمدنيين.
كان لظهور دعوة محمد بن عبد الوهاب في القرن الثامن عشر أثر بالغ تجاوز نجد وشبه الجزيرة العربية إلى مشرق العالم العربي ومغربه، مثيراً انتقادات كثيرة وردت في الردود العديدة على رسائله إلى الأقطار العربية تبشيراً بدعوته ونشراً لمذهبه، وبما أنه خصّ تونس برسالة توضح منهجه وآراءه الدينية وأفكاره العقدية، فقد أمر باي تونس حمودة باشا حينها الشيخ عمر المحجوب "بتوضيح الحق" في رسالة شهيرة ردّ بها الشيخ على أفكار محمد بن عبد الوهاب وانتقده انتقاداً لاذعاً، وهي رسالة من بين رسائل عدة وكتب تونسية كثيرة كتبت في هذا الشأن.

جاء رد علماء تونس على رسالة محمد بن عبدالوهاب رسمياً بتكليف من السلطة السياسية الحاكمة آنذاك ومنها ما كان بمبادرات ذاتية

كتب علماء تونس عدداً من الردود على "فتنة الوهابي" كما يسميها الفقيه والأديب التونسي محمد السنوسي في كتابه "مسامرات الظريف"، منها ما كان رسمياً بتكليف من السلطة السياسية الحاكمة آنذاك، ومنها ما كان بمبادرات ذاتية رداً على استفزاز رسالة ابن عبد الوهاب إلى تونس خاصة وإلى المسلمين عموماً؛ وقد كلف حمودة باشا خامس بايات تونس (من 1782 إلى 1814) القاضيين الشيخين عمر المحجوب وإسماعيل التميمي الرد عليها، كما كتب الشيخ إبراهيم الرياحي رسالة في هذا الشأن.
وجاء رد عمر المحجوب –وهو الأشهر– ساخراً هازئاً في أحيان كثيرة، كاشفاً الاستياء الذي خلفته رسالة ابن عبد الوهاب في نفوس علماء تونس وشيوخها عامة؛ إذ استهلّ ابن عبد الوهاب رسالته بديباجة خطابية، ثم ركّز على ثيمة التوحيد وضرورة "تمحيض" العبادة لله اعتماداً على آيات قرآنية، كما أشار إلى خطر الفرقة والفتنة وضرورة اتباع منهج "الفرقة الناجية" اعتماداً على الحديث المعروف، ثم عرج على "ما عمت به البلوى من حوادث الأمور التي أعظمها الإشراك بالله، والتوجه إلى الموتى، وسؤالهم النصر على العدى، وقضاء الحاجات، وتفريج الكُربات التي لا يقدر عليها إلا رب الأرض والسماوات، وكذلك التقرب إليهم بالنذور، وذبح القربات، والاستعانة بهم في كشف الشدائد وجلب الفوائد، إلى غير ذلك من أنواع العبادة التي لا تصلح إلا لله تعالى".

لم يكن بمقدور السلفية المتشددة أن تنتشر بتونس خلال القرن التاسع عشر لأسباب كثيرة أهمها قوة جامع الزيتونة

ثم بين منهجه وجماعته قائلاً: "فهذا الذي أوجب الاختلاف بيننا وبين الناس، حتى آل الأمر إلى أنْ كفّرونا وقاتلونا واستحلوا دماءنا وأموالنا، حتى نصرنا الله عليهم وظفرنا بهم، وهو الذي ندعو الناس إليه ونقاتلهم عليه، بعد ما نقيم عليهم الحجة من كتاب الله وسنة رسوله وإجماع السلف الصالح من الأئمة، ممتثلين لقوله تعالى (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَة وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) الأنفال (39) . فمن لم يجب الدعوة بالحجة والبيان دعوناه بالسيف والسنان، كما قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) الحديد 25. وندعو إلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم شهر رمضان وحج بيت الله الحرام، ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، ولله عاقبة الأمور".

تمكن الإخوان التونسيون بحكم التأثر بهذا الفكر من العودة به لتونس ونشر ثقافة التشدد والعنف وتكفير المجتمع

جاء رد عمر المحجوب معتمداً على الأدلة النصية قرآناً وسنة في بيان ضعف أطروحة ابن عبد الوهاب، وأبرز له تسرُّعه في تكفير المسلمين، واستهزأ من ادعائه ضمناً بأنه وصي على الدين؛ والمقطع الآتي يكشف عن الأسلوب الذي اعتمده المحجوب في رده:
"وقد زعمت أنّ الناس قد ابتدعوا في الإسلام أموراً، وأشركوا بالله من الأموات جمهوراً في توسلهم بمشاهد الأولياء عند الأزمات، وتشفّعهم بهم في قضاء الحاجات، ونذر النذور إليهم والقربات، وغير ذلك من أنواع العبادات، وأنّ ذلك كله إشراك برب الأرضين والسماوات، وكفر قد استحللتم به القتال وانتهاك الحرمات، ولعمر الله إنك قد ضللت وأضللت، وركبت مراكب الطغيان بما استحللت، وشنّعت وهوّلت، وعلى تكفير السلف والخلف عوَّلت، وها نحن نحاكمك إلى كتاب الله المحكم، وإلى السُّنن الثابتة عن النبي -عليه السلام.

أصرت حركة النهضة الإخوانية على أن يكون المتطرفون من المتمتعين بالعفو الذي شمل السجناء عقب الثورة التونسية

أما ما أقدمت عليه من قتال أهل الإسلام، وإخافة أهل البلد الحرام، والتسلط على المعتصمين بكلمتي الشهادة، وأدمتم إضرام الحرب بين المسلمين وإيقاده، فقد اشتريتم في ذلك حُطام الدنيا بالآخرة، ووقعتم بذلك في الكبائر المتكاثرة، وفرّقتم كلمة المسلمين، وخلعتم من أعناقكم ربقة الطاعة والدين، وقد قال الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبيَّنوا ولا تقُولوا لمن ألقى إليكم السلامَ لستَ مؤمناً تَبْتَغونَ عَرَضَ الحياةِ الدُّنيا فعِندَ اللهِ مغانِمُ كثيرةٌ (سورة النساء/94)، وقال عليه السلام: "أُمرتُ أنا أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" –أي ومحمد رسول الله- "فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها، وحسابهم على الله".
وحيث كنت لكتاب الله معتمداً، ولعماد سنته مستنداً، فكيف بعد هذا –ويحك- تستحلُّ دماء أقوام بهذه الكلمة ناطقون، وبرسالة النبي -عليه السلام- مصدقون، ولدعائم الإسلام يُقيمون، ولحوزة الإسلام يحمون، وبعبدة الأصنام يقاتلون، وعلى التوحيد يناضلون، وكيف قذفتم أنفسكم في مهواة الإلحاد، ووقعتم في شق العصا والسعي في الأرض بالفساد؟".

تغلغل بلغة الإعلام والإنترنت
لم يكن بمقدور السلفية المتشددة أن تنتشر في تونس خلال القرن التاسع عشر لأسباب كثيرة أهمها قوة جامع الزيتونة بوصفه منارة علمية تمثل مرجعاً في العقيدة والفقه والقضاء يغني عن كل فكر وافد خصوصاً في مجال الدين، كما أنّ انتشار الطرق الصّوفية وتغلغلها في النّسيج الاجتماعي منعا الفكر الوهابي من التسرب إلى المجتمع بالدرجة المرجوة. ثم إنّ الإسلام التونسي هو مزيج شكّلته عناصر كثيرة صارت لها محليّتها وخصوصيتها بسبب انتشار المذهب المالكي فيها، وقد بأنّ هذا النّموذج في رد المحجوب، وظل مسيطراً حتى ستينيات القرن العشرين، إلى أنّ بلغنا عصر فضاء الإعلام المفتوح، وظهر الإسلام السياسي الذي تقاطع مع الوهابية في نقاط كثيرة، منها تبني فكرة تغيير الواقع بالعنف، وتمكن الإخوان التونسيون، بما أنهم ينتمون إلى تنظيم لا يعترف بالحدود الجغرافية، من الدراسة بالمشرق والاختلاط بمراجع هذا الفكر والتأثر به والعودة به إلى تونس لنشر التشدد والعنف وتكفير المجتمع، وهذا ما يعترف به قادة النهضة اليوم في شهاداتهم عن شبابهم، ويقرّون بأنهم كانوا يتخذون موقفاً سلبياً من المجتمع الذي يرونه ضالاً –أو على الأقل مُضللَّاً من طرف النّظام الحاكم – وهو ما يستدعي التّدخل لإعادته إلى منهج "الإسلام الحق".

اختلط المشهد الديني في العالم العربي والإسلامي بلا ضابط، يتقاطع فيه الإرهاب والتطرف بالدين والسياسة والثقافة

يُضاف إلى ذلك انتشار الكتب المدافعة عن الفكر السلفي المتشدد والمُعرِّفة بها في شتى بقاع الأرض: منظمات وجمعيات ودور نشر ومجلات عابرة للمكان تنشر هذا الفكر وتدعو إليه وتبشّر به، مستغلة في ذلك المكتوب والمسموع والمرئي، ويدفع الكم الهائل من القنوات الفضائية الدينية للتساؤل: من يقف وراء هذه القنوات؟ من يشجع خطابها؟ في مصلحة من تصب خطب هؤلاء الدعاة الذين يلبسون زياً واحداً في المظهر والفكر؟ وكيف يتم تجنيدهم؟ أين درسوا؟ وكيف تخرجوا؟
من هنا يمكن إدراك خطورة الدور الذي لعبته وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة في نشر هذا الفكر بوصفه منهج "الفرقة الناجية"، ومعرفة منابع التكفير وأعمال القتل والترويع التي نعيشها. فضلاً عن الدور الأخطر الذي لعبته وسائل التواصل الاجتماعي في الاستقطاب ونشر هذا الفكر عبر التدوينات والكتب المصورة ومقاطع الفيديو، بل إن صفحات كثيرة صارت تبث الدروس والخطب بثاً حياً مباشراً، واختلط المشهد الديني في العالم العربي والإسلامي بلا ضابط، يتقاطع فيه الإرهاب والتطرف بالدين والسياسة والثقافة.
أما في تونس، فقد استفادت السلفية المتشددة من الثورة العام 2011 التي قررت عفواً تشريعاً عاماً خرج بموجبه كل المساجين، وغادر المتطرفون زنزاناتهم بعد أن كانوا محكومين في أحداث إرهابية، وأصرت حركة النهضة الإخوانية على أن يكون المتطرفون –أعضاء ما يعرف بخلية سليمان مثلاً– من المتمتعين بالعفو، باعتراف أبرز قادتها.. وفي ظل هذه المعطيات ما يزال هذا الأمر قنبلة موقوتة تتهدد المجتمع، خاصة في حال عودة المئات من الذين قاتلوا مع التنظيمات الإرهابية في سورية وعلى رأسها "داعش".. فهل يكفي اليوم مجرد رسالة كما فعل عمر المحجوب لكبح جماح هذا التيار ومواجهته؟

 


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية