"الإرهاب: مقدمة نقدّية".. كيف نفهم الظاهرة بعيداً عن السائد؟

"الإرهاب: مقدمة نقدّية".. كيف نفهم الظاهرة بعيداً عن السائد؟

"الإرهاب: مقدمة نقدّية".. كيف نفهم الظاهرة بعيداً عن السائد؟


26/03/2024

كثيرة هي الدراسات والكتب التي صدرت بعد هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، حول ظاهرة الإرهاب، وبمختلف اللغات في العالم، ورغم هذه الوفرة في الإنتاج، التي تناولت مختلف زوايا الظاهرة، إلّا أنّها بقيت تثير الخلاف والجدل أكثر من مساهمتها في الدقّة والوضوح والفهم.

اقرأ أيضاً: ازدواج المعايير.. كيف يفهم الغرب ظاهرة الإرهاب؟
وكما أكدنا في أكثر من مناسبة؛ فليس من السهل على الباحثين والدارسين  استعراض الأدبيات التي تبحث حقل الإرهاب؛ لأنّه حقل يتميز بتداخل كثير من حقول المعرفة، مثل: علم الاجتماع، الدين، علم النفس، العلوم السياسية، الاقتصاد، والتكنولوجيا، الأمر الذي عقّد من دراسته، ثم زاد من هذا التعقيد قلة الدراسات المتخصصة بالظاهرة، خاصّة أنّها كحقل مستقلّ للدراسة لم تحظَ باهتمامٍ كبير في العالم، إلّا بعد هجمات 11 سبتمبر، التي أدّت إلى ثورة في حركة البحث والكتابة والتأليف والترجمة والمراجعات حول ظاهرة الإرهاب، حتى أنّ عدد الكتب التي صدرت عقب الهجمات بعقدٍ من الزمن يُقدر بأكثر من 1742 كتاباً في الغرب وحده.

غلاف الكتاب
الملاحظة الأولية على هذا الكمّ الكبير من الكتب (طبعاً عدا عن الدراسات والأوراق العلمية الأكاديمية المتخصصة)؛ أنّها تعتمد في غالبيتها المناهج والنظريات الواقعية والليبرالية، وقليل منها اعتمد مناهج المدرسة النقدية واليسارية تحديداً. حيث ما تزال "النظرية الواقعية" هي المسيطرة في حقل دراسة الإرهاب حالياً؛ كحقل دراسي – بحثي، مدرسي ومعرفي، وأيضاً كفعل عملياتي أداتي يتجلّى في تكتيكات وأساليب "مكافحة الإرهاب" الخشنة، والتي تستند في الأساس إلى إيمان "النظرية" الواقعية العميق، بكلّ فروعها؛ بأنّ "الدولة" هي وحدة التحليل الرئيسة في السياسة الدولية، رغم التغيرات العميقة التي أحدثتها سيرورة العولمة من تغير في بنية وسلوك الدول، وفي تركيز النظرية على دراسة إرهاب "الأطراف الفاعلة من غير الدول"، الجماعات والمنظمات، في مقابل إهمال دراسة "إرهاب الدولة"؛ أي الإرهاب الذي تمارسه الدول، سواء ضدّ غيرها من الدول، أو ضدّ الجماعات والمنظمات، أو حتى الأفراد.

رغم كثرة الدراسات والكتب المتعلقة بالإرهاب إلّا أنّها بقيت تثير الخلاف والجدل أكثر من الدقّة والوضوح والفهم

لكن، في منافسة "النظرية الواقعية" نشطت "الدراسات النقدية في دراسة الإرهاب" إثر هجمات 11 سبتمبر، وإعلان الحرب على الإرهاب، مستندة إلى تراث ماركسي تقليدي من "مدرسة فرانكفورت"، والدراسات الأمنية النقدية في جامعة (أبيريستوث/ ويلز) في محاولة لصياغة وبناء  مقاربة مختلفة لدراسة  الإرهاب كبناءٍ اجتماعي، وتعرية مفهوم الإرهاب كشعارٍ يطبق في ممارسات عنيفة محدَّدة، من خلال مستويات مختلفة من العمليات السياسية والقانونية والأكاديمية، والتأكيد في المقابل؛ أنّ المعاني يتمّ تطويرها بالتنسيق مع الآخرين، وليس بشكل منفصل داخل كلّ فرد.
وهنا نلاحظ تأثير أدبيات نظريات التواصل والتحرر والانعتاق والمزاوجة بين البنية والفعل في نظرية واحدة، كما عند الفيلسوف الألمانيّ، يورغن هابرماس، الذي يعدّ الوريث الرئيس المعاصر لتركة مدرسة فرانكفورت.

اقرأ أيضاً: أين تكمن مشكلة دراسة الإرهاب المعاصر؟
من هنا تركّز هذه المدرسة النقدية على ضرورة طرح أسئلة مثل: (كيف)، و(لماذا) تحدث العمليات الإرهابية؟ وهل حقاً يكره الإرهابيون الغرب لحريته، أم أنّ هناك أسباباً ودوافع سياسية أخرى؟ والتأكيد على أنّ الإرهاب "أنطولوجياً" حقيقة اجتماعية، وليس رغبة إنسانية متوحّشة، ومن أشهر منظّريها اليوم: ريتشارد جاكسون، لي جارفيس، يورين جانينغ، وماري براين سميث، كين بوث، وريتشارد ووين جونز.

 الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس
لذلك؛ ارتأيت في هذه القراءة أن أعرض أهمّ منظّري المدرسة النقدية في دراسة الإرهاب، وعلى رأسهم ريتشارد جاكسون، وذلك من خلال كتاب "الإرهاب: مقدمة نقدية"، الذي ألّفه بالتعاون مع (لي جارفيس، ويورين جانينغ، وماري براين سميث) ضمن مشروع "الدراسات النقدية للإرهاب"، وصدرت الطبعة الأولى منه باللغة الإنجليزية، العام 2011، ويتكوّن من 323 صفحة.

اقرأ أيضاً: الأمم المتحدة تحذر: هجمات متوقعة لداعش في 2019.. أين ستكون؟
في المقدمة التحريرية المختصرة للكتاب؛ نلاحظ الاتفاق المنهجي حول أهمية وخطورة الإرهاب في حقبة العولمة المعاصرة؛ حيث يؤكد المحرّرون أنّ للإرهاب تاريخاً طويلاً في المجتمع الإنساني، لكنّه تحوّل بعد هجمات 11 سبتمبر، إلى قضية تحظى باهتمام عالمي، وأنّ الإرهاب والحرب على الإرهاب أثّرا في مختلف القضايا لحياتنا المعاصرة، وأنّ الفهم الدقيق له أصبح أكثر أهمية من أيّ وقت مضى، وهذا التأكيد أمر لا يختلف عليه أحد اليوم.

ليس سهلاً على الباحثين استعراض الأدبيات التي تبحث حقل الإرهاب لتداخله مع كثير من حقول المعرفة

إنّ الجديد في الكتاب هو طموح مؤلّفيه إلى تقديم مقاربة "نقدية" مختلفة عن السائد في الأدبيات المعاصرة للإرهاب، تحاول النفاذ إلى مختلَف الأوجه المختلَف عليها في دراسته، ابتداءً من مسألة تعريف الإرهاب إلى طبيعة خطر الإرهاب، وصولاً إلى إستراتيجيات مكافحته والادّعاء بأنّ الأساليب التي نتبعها وكافة المواد التي ندرسها مهمة في فهم الإرهاب؛ لذلك يذهب الكتاب بعيداً، محاولاً تخطّي المقاربات المعروفة في العلاقات الدولية لإعادة التفكير في الأفكار السائدة حول هذه الظاهرة، وهي محاولة ليست سهلة كما يؤكّد المؤلفون.
يتألف الكتاب من قسمَين رئيسَين، وكثير من القوائم والصور والأشكال التوضيحية ودراسات الحالة والمراجع الإضافية لكلّ فصل من الفصول.
في القسم الأول، الذي جاء بعنوان "دراسة الإرهاب"، يتناول الكتاب الدراسات التقليدية، أو ما أطلق عليه المؤلف "الدراسات الأرثوذكسية" في الظاهرة، مقابل المقاربات البديلة، كما تقدمها الدراسات النقدية للإرهاب في مدرسة أبيريستوث، ثمّ المقاربات المختلفة للإرهاب والبناء الاجتماعي للإرهاب، وإدخال النوع الاجتماعي "الجندر" لدراسة الإرهاب.

اقرأ أيضاً: ما موقع الشباب في معادلة الإرهاب المعولم؟
في هذا القسم، يؤكّد المؤلفون أنّ الإرهاب أصبح في كلّ مكان في القرن والواحد والعشرين، والخبر الأول في وسائل الإعلام، ويشغل الدول والحكومات، من الأمم المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي، إلى حلف الناتو، إلى الأجهزة الأمنية والشرطة في كافة الدول.
كلّ هذا، رغم أنّ الظاهرة تعود إلى مئات السنين، إلى حقبة الثورة الفرنسية، إلا أنّها بقيت حتى السبعينيات بعيدة عن الأضواء والاهتمام؛ حيث لم تكن هناك أفلام أو مسلسلات أو روايات أو كتب أو باحثون مهتمّون بالإرهاب، مقارنة بما نشاهده اليوم، لكنّ صعوبة الكتابة والبحث في ظاهرة الإرهاب ما تزال موجودة، لسببين:
الأول: قلّة الدراسات والنصوص المتوافرة للطلاب والدارسين مقارنة بالحقول الأخرى، مثل: العلاقات الدولية، علم الجريمة، الدراسات الأمنية.
الثاني: أنّ الإرهاب ليس حقلاً أكاديمياً مجرداً؛ لأنّه، كما سبق أن أشرت، حقل يتميز بتداخل كثير من حقول المعرفة.

الجديد في كتاب "الإرهاب: مقدمة نقدية" طموح مؤلّفيه لتقديم مقاربة "نقدية" مختلفة عن السائد في الأدبيات المعاصرة للإرهاب

ويؤكّد المؤلفون أنّهم يدركون مدى الالتباس الذي يحدثه استخدام "نقدي" (critical)، وأنّه يثير الخلاف تماماً مثل مفهوم الإرهاب نفسه؛ لذلك يقولون إنّهم يقصدون بالدراسة النقدية للإرهاب مجالَين هما: المجال العام وفيه تحاول المدرسة النقدية الوقوف خارج النظام القائم وطرح الأسئلة حول كيفية ظهور هذا النظام للوجود، وكيف يبقى.
والمجال الخاص؛ من خلال الاعتماد بشكلٍ رئيس على أفكار "المدرسة النقدية "التي تضرب جذورها إلى مدرسة فرانكفورت، وتسعى إلى تغيير المجتمع بشكلٍ عام".
وتتّفق المقاربات النقدية في مجموعة من الأفكار، أهمّها: التشكيك بالمسلَّمات والمعرفة العامة، وطرح الأسئلة والتحقق من الأفعال والادّعاءات، وعدم الركون إلى الوضع القائم، والحساسية المفرطة تجاه علاقة القوة بالمعرفة؛ حيث يرون، اعتماداً على المقولة المشهورة في حقل العلاقات الدولية لمؤسس النظرية النقدية في العلاقات الدولية الذي تأثر بالمنظّر اليساري الإيطالي، أنطونيو غرامشي، البرفسور الكندي، روبرت كوكس، التي تقول: إنّ "النظرية دائماً من شخص ما، خدمة لهدف ما"، وهذه النظرية يُمكن أن تنفذ وتتسلل إلى الباحثين والدارسين؛ حيث تنعكس في مقارباتهم وتحليلاتهم للقضايا المهمة، ثم الإيمان العميق بحقوق الإنسان، والتركيز على المصادر الأولية، لا الفرعية، لجمع المعلومات والمعرفة.

 

 

أما في القسم الثاني من الكتاب؛ فقد تمّ تناول دراسة مفاهيم الإرهاب والتعريفات المختلفة له، وكيفية الخروج من "مستنقع التعريفات"؛ نظراً إلى أنّ مفهوم الإرهاب معقّد جداً، ولأنّه ليس هناك تعريف محدَّد ومتَّفق عليه، وهذه حقيقة يُقرّ بها المؤلفون والمدرسة النقدية أيضاً، مع التأكيد أنّه رغم قدمِ الظاهرة إلّا أنّه، في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن العشرين، ظهر الإرهاب ليأخذ مكانه ويتموضع كتصنيفٍ رئيس ومهمّ ضمن تصنيفات العنف السياسي، وقبل ذلك كانت هناك حلقات ضيقة جداً من الأكاديميين المهتمين بدراسة الإرهاب، أطلق عليهم (رغم صعوبة ترجمة المصطلح إلى العربية) اسم "المختصين بالإرهاب" (Terrorologists) .

 

يعد الكتاب إضافة نوعية ومقاربة مختلفة لكيفية دراسة هذه الظاهرة خارج المنظومة المعرفية الأنجلوساكسونية المسيطرة

وأشير هنا إلى أنّ هذا المصطلح "تيروروليجست" مُحمَّل بكثير من المعاني السببية لدى المدرسة النقدية، تجاه أنّ هذه "النخب" المختصة بدراسة الإرهاب تركّز على إرهاب "الأطراف الفاعلة من غير الدول" (الجماعات والمنظمات)، وتنسى الإرهاب الذي تمارسه الدولة بشكل تام، وهي التي تتولى الدفاع عن الدول والأنظمة من خلال مراكز البحث والدراسات ووسائل الإعلام بشيطنة الإرهابيين واستبدالهم بالعرب والمسلمين فقط.
وهذه النُخب هي المسيطرة على حقول دراسة الإرهاب ومكافحة الإرهاب، خاصة في الولايات المتحدة وأوروبا، والذين يقدَّر عددهم حالياً، بحسب موقع (http://powerbase.info)، بــــ282 أكاديمياً وخبيراً.
كما تناول هذا القسم مجموعة من القضايا الخلافية والمهمة في الظاهرة، مثل: خطر الإرهاب وأنواعه المختلفة، إرهاب الدولة (الأطراف الفاعلة من الدول)، إرهاب الجماعات والمنظمات (الأطراف الفاعلة من غير الدول)، مكافحة الإرهاب وتقييم الحرب على الإرهاب، التي أعلنت بعد هجمات 11 سبتمبر، الذي جاء تقييماً نقدياً سلبياً وقاسياً، ومعارضاً للحرب بشكلٍ عام.
بشكلٍ عام؛ يمكن اعتبار الكتاب إضافة نوعية في أدبيات الإرهاب المعاصر، ومقاربة مختلفة لكيفية دراسة هذه الظاهرة خارج المنظومة المعرفية الأنجلوساكسونية، المسيطرة على حقل دراسات العنف السياسي والإرهاب والدراسات الأمنية، من خلال مشروع الدراسات النقدية للإرهاب، الذي يسعى إلى تطبيع فكرة تحليل الإرهاب ودراسته كبناءٍ اجتماعي، والتركيز على مسألة كيف نفهم الإرهاب كباحثين ومواطنين عاديين وطلاب علم، دون التركيز على الإرهابيين كموضوع فقط؛ لذلك لا غنى عنه لكلّ باحث ودارس للإرهاب ومكافحة الإرهاب المعاصر.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية