ما أبرز تحوّلات مُلكيّة الأرض في مصر قبل ثورة يوليو؟

مصر

ما أبرز تحوّلات مُلكيّة الأرض في مصر قبل ثورة يوليو؟


30/06/2019

عبر قرون ساد النظام الإقطاعي، بأشكاله ودرجاته المختلفة، أرجاء واسعة من العالم الإسلامي، ومع دخول العصر العثماني، وانضواء أجزاء واسعة من المشرق تحت سلطان الدولة العثمانية، لم تكن الدولة استثناء في الاستمرار بتطبيق نظام الإقطاع. في مصر سرعان ما تشكّل نظام إقطاعي من نوع خاص، عُرف بـ "الالتزام"، ولكن تحوّلات كبرى شهدتها البلاد، نقلتها بين عدة أنظمة متباينة، وانتهى الحال إلى ظهور المُلكيّات الخاصة المرتبطة أساساً بالرأسماليّة، فكيف كان ذلك؟
كيف انتهى إصلاح قانوني إلى ترسيخ نظام إقطاعي؟
بعد دخول مصر في حكم الباب العالي، أصدر السلطان "سليمان القانوني" المنظومة التشريعية المعروفة باسم "قانون نامة" عام 1525، والتي تضمنت أحكاماً في تحديد حقوق الأراضي، وبمقتضاها طُلب من الفلاحين المصريين إثبات مُلكيّتهم لأراضيهم بحُجَجْ مكتوبة، وهو ما لم يكن معروفاً عندهم آنذاك، وكان المتعارف عليه أنّه من يشتغل في الأرض هو مالكها، فلم يقدروا على الإثبات، وبالتالي اعتبرت الأراضي "أميريّة" وآلت مُلكيّتها إلى السلطنة.

كانت خريطة القوى الاجتماعية والسياسية تعكس واقع تملّك الأرض وتعبّر عنه

ومباشرة، قام والي مصر العثماني، سليمان باشا، بإيكال مهمة جمع الضرائب عن الأراضي الزراعية للأمراء المماليك، الذين كانوا حُكّام البلاد قبل خضوعها للعثمانيين، وأصبح كل مملوك عبارة عن "مُلتزم"، وهو الذي يلتزم بدفع ضريبة محددة كل عام إلى الوالي العثماني، في مقابل أن يجمعها من الفلاحين ويجمع لنفسه فوقها زيادة خاصّة به باسم "الفائدة". وقد أُطلقت يد المُلتزم في التحكّم بالأرض وأهلها، فصار له الحقّ في توزيع الأراضي وتقسيمها وسحب الحيازة من الفلاحين وإعادة توزيعها على من يشاء.
وبسبب عزوف المماليك عن العيش في الأرياف، وتفضيلهم الاستقرار في المدن ومراكز الأقاليم، فإنّهم كانوا يوكلون وكلاء من أقوياء الفلاحين لجمع الضريبة والفائدة، وكان للوكيل أيضاً حصّة لنفسه تضاف فوق الضريبة والفائدة، ومن هذه الفئة نشأت طبقة شيوخ البلد وأعيان الريف.

أمراء مماليك في زيارة للسلطان العثماني محمد الأول (1413-1421)

نظام يُنهك الدولة
ومع مرور الزمن، أصبح الالتزام يُورّث ويُباع، وبينما كان عدد الملتزمين في منتصف القرن السابع عشر بحدود الـ (1700) ملتزم، فإنّه قد وصل في أواخر القرن الثامن عشر إلى حوالي ستة آلاف ملتزم، ما يعني أنّ مساحة الالتزامات كانت تصغُر وتتفتت، وعدد المُلاك (الملتزمين) كان يكبر ويزداد. وكانت خريطة القوى الاجتماعية والسياسية تعكس واقع تملّك الأرض وتعبّر عنه؛ فكان أصحاب الالتزامات هم أقوى الأشخاص نفوذاً والأغنى في البلاد، حتى صاروا يمثلون تهديداً فعلياً لسلطة الوالي.

اقرأ أيضاً: من التجارة إلى الإقطاع... كيف حصلت الانعطافة الكبرى في التاريخ الاقتصادي للمشرق؟
ومع مطلع القرن التاسع عشر، كان نظام الالتزام في مصر قد أصبح معرقلاً للنمو والتطوّر، فأصبحت سلطة الدولة على أراضيها سلطة شكليّة، ولم تعد تحصّل منها دخلاً وافراً، وذلك بعد أن بات معظم العائد يذهب لطبقة الوسطاء من الملتزمين، وأصبحت سلطة الملتزمين بمثابة منازع وعامل إضعاف للسلطة المركزيّة. ولم تكن الطبقة الإقطاعيّة تبذل أي جهود فعلية للنهوض بالزراعة وتطوير الإنتاج، وإنما كانت الثروات تنفق في مظاهر الترف وفي الصراعات بين الملتزمين.
الفلاح.. أذلُّ من العبد المُشترى!
وكان الملتزم ومن يشاركونه إدارة الأرض سوطاً مسلطاً على الفلاح، فكانوا يلقنونه أشد العقاب إن تأخر في دفع ما يجب عليه من ضرائب أو حاول الهرب. ويصوّر المؤرخ المعاصر لتلك الحقبة، عبد الرحمن الجبرتي، في كتابه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار"، أنواع الابتزاز والإذلال التي كان يلقاها الفلاحون في ظل هذا النظام، ويقول: "كانوا - أيّ الفلاحين - مع الملتزمين أذلّ من العبد المُشتَرى". بينما يصوّر الشيخ يوسف بن محمد الشربيني، في كتابه "هزّ القحوف بشرح قصيدة أبي شادوف"، والمكتوب في حدود منتصف القرن السابع عشر، حياة الفلاحين وواقعهم التعيس آنذاك، اقتصادياً، واجتماعياً، وثقافياً، فيجمع الكتاب قصائد لشعراء دراويش من الأرياف، ويشرحها بأسلوب ساخر. ويُورد الشربيني في الكتاب العديد من القصص التي تبيّن جهل وبساطة الفلاحين وفساد حال معيشتهم على جميع الصُعُد في ظلّ ذلك النظام الجائر.

صوّر الجبرتي أنواع الابتزاز والإذلال التي كان يلقاها الفلاحين في ظل ناظم الالتزام

محمد علي.. وموقف حاسم من الالتزام
هذا كان حال النظام السائد وانعكاساته حتى القرن التاسع عشر، والذي عَرَفت مصر في مطلعه انعطافة هامّة مع وصول محمد علي باشا إلى رأس السّلطة، وعزمه على إحداث تغييرات جوهريّة في إدارة البلاد ونُظمها.

بالنسبة لمحمد علي كان نظام الالتزام يعني تسرب الجزء الأكبر من الدخل بعيداً عن خزينة الدولة

بالنسبة لمحمد علي، كان نظام الالتزام يعني تسرب الجزء الأكبر من الدخل إلى الوسطاء من الملتزمين بعيداً عن خزينة الدولة، ما يؤدي إلى إضعافها ويُفقدها القدرة على القيام بواجباتها وإطلاق المشروعات التنمويّة، فعزم لذلك على إنهاء هذا النظام. وجاءت الضربة الأولى منه للنظام مع تنفيذه "مذبحة القلعة" سنة 1811، والتي قتل فيها نحو (470) من المماليك. بعد ذلك بدأ محمد علي تغييراته الجذريّة على مستوى نُظُم ملكيّة الأرض، فصودرت التزامات المماليك ولم يبقَ منها سوى بعض الجيوب التي صُفيّت لاحقاً.
وقام محمد علي بتوزيع الأطيان (الأراضي) على صغار الفلاحين عن طريق شيخ البلد أو مأمور المركز، وكان التوزيع على أساس حقّ الانتفاع لا حقّ المُلكيّة، وكانت هذه الأرض تسمى "الأثريّة"؛ لصغر مساحتها.

تصوير لمذبحة القلعة.. كانت الخطوة الأولى في سبيل القضاء على الالتزام

خطوات إلى الوراء
تسبب إلغاء نظام الالتزام باستياء شديد بين الملتزمين، وكانوا لا يزالون يؤلفون طبقة كبيرة من المُلّاك والأعيان والمشايخ، فأراد محمد علي أن يُعوّضهم شيئاً مما فقدوه، فأبقى تحت أيديهم نوعاً خاصاً من أملاك الالتزام وهو "الوسيّة"، التي كانت تُقطع لهم مقابل القيام بأداء أعباء الالتزام.

أدى تطوّر نظام رأسمالي زراعي إلى بداية ظهور المُلكيّات الخاصّة

وفي السنوات الأخيرة من حكمه، وبعد هزيمة مشروعه الخارجي المتمثّل بالحملة العسكرية في سوريا، والضربة التي تلقّاها مع مُخرجات مؤتمر لندن (1840)، اضطرّ محمد علي لاتخاذ خطوات لإعادة بناء سلطته الداخليّة فقام بإقطاع بعض المُقرّبين من كبار موظفيه وبعض الأجانب أملاكاً عُرفت باسم "الأبعاديّة"، وهي الأراضي التي كانت زائدة وغير منتفع منها في القُرى، كما ترافق ذلك مع إقطاعه مساحات واسعة لأفراد أُسرته، عُرفت بـ "الجفالك"، وكانت معفيّة من الضرائب.
ومع تراجع مشروع محمد علي في أعقاب مؤتمر لندن، تعرّض نظامه لأزمة ضريبيّة حادّة، استدعت منه إحداث تحوّل جديد على مستوى أنظمة المُلكيّة، فجرى العدول عن نظام "الأثريّة" واستحدث نظاماً باسم "العُهدة"، وهو نظام يشبه إلى حدّ ما الالتزام السابق، ويقضي بأن يقوم "المتعهد" مُقَدَماً بدفع ضريبة عن مساحة من الأراضي الزراعيّة، على أن يقوم هذا المتعهّد بجمع تلك الضريبة من الفلاحين، وبذلك حدث نوع من العودة لعهد الإقطاع.

العولمة والرأسمالية.. ودخول عصر الملكيّة الخاصّة
وفي عهد الخديوي إسماعيل، أُلغي نظام العُهدة، فتحوّلت الأراضي إلى ملكيّة الخديوي، ليبدأ بإعادة توزيعها على فئةٍ قليلة من عائلته ومن كبار الموظّفين. وخلال عهد الخديوي اندمجت مصر بشكل أكبر في السوق العالميّة بفعل زيادة حجم الصادرات الزراعيّة، لتصبح الأراضي الزراعيّة بذلك مصدراً للثراء.

اقرأ أيضاً: خالد محي الدين فارس الديمقراطية والإقطاعي الذي أنصف الفقراء
وترافق ذلك مع تشكّل سوق داخلي بفعل زيادة عدد سكان المدن مع نشوء المصانع والوِرَش فيها، وتزايد مُعدّلات الهجرة من الريف إليها، فتزايدت بذلك حاجة المدن إلى المواد الغذائيّة، وهو ما استمر بالصعود مع تطوّر وسائل النقل، وبخاصّة السكك الحديديّة.
كُلّ ذلك أدى إلى تطوّر نظام رأسمالي زراعي في مصر يبحث عن الاستثمار وتحقيق الربح، وبفعل هذا التطوّر تزايدت المشاريع الاستثمارية وهو ما أدى إلى بداية ظهور المُلكيّات الخاصّة التي أتت من شراء الأراضي لغايات الاستثمار.
الأثر الاستعماري
تدفق رأس المال الأجنبي على مصر في عهد الخديوي إسماعيل، وجاء في شكل استثمارات بالأساس وقروض للحكومة، وقد اتجهت الاستثمارات لإنشاء شركات في قطاعات مثل؛ السكّر والقطن والغزل والنسيج والمياه. وتضاعف التدخّل الأجنبي عبر القروض، إلى أن بلغ حجم الدَّيْن المصري (91) مليون جنيه إسترليني، في نهاية عهد الخديوي إسماعيل، ما استدعى تدخّل الدائنين من أجل ضمان سداد ديونهم، خصوصاً بعد تهديد مصالحهم من قبل "الثورة العُرابيّة"، فغزا الإنجليز مصر عام 1882، وبدأت سياسة بريطانيا بتحويل مصر إلى مستعمرة زراعيّة.

اقرأ أيضاً: "معركة الإسلام والرأسمالية": هكذا قدم سيد قطب حلوله الاقتصادية
ومباشرةً، عمل الإنجليز على إعادة تنظيم مُلكيّة الأراضي، فأصدروا قانوناً عام 1882 يقضي بإقرار المُلكيّة الخاصّة وإلغاء كُلّ ما سبق من أشكال المُلكيّة. ومع مطلع القرن العشرين، تكاثرت الشركات، الأجنبيّة بالأساس ومعها بعض المحليّة، التي امتلكت آلاف الفدادين لتنفيذ مشروعاتها الاستثماريّة.

غزا الإنجليز مصر عام 1882 وبدأت سياسة بريطانيا بتحويل مصر إلى مستعمرة زراعيّة

وهكذا، بدأت تنمو تحت رعاية الاستعمار، طبقة من النخب الأجنبيّة والبرجوازيّة المصريّة العُليا؛ حيث مكّنتها الملكيّة الخاصّة من تحقيق تراكم رأساليّ وفير، وعلى الجانب الآخر، تحوّل الفلاحون المصريون إلى عُمّال، وتحوّلوا من أصحاب ملكيّة أثريّة إلى مجرد عاملين بأجر، ليكون ذلك بمثابة انقلاب في القرية المصريّة على جميع الصُعُد، ولتنتقل بذلك البلاد من مرحلة الاستغلال الإقطاعيّ إلى مرحلة الاستغلال الرأسماليّ.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية