لم يكن مفهوم التضامن الدولي، بين الدول، أو بين الشعوب، مفهوماً إنسانياً صِرفاً في أصوله، فبعد حربين عالميتين، ظهرت من خلالهما الفاشية في أقصى تجلياتها، بينما بدأ صعود التصنيع والرأسمالية الصناعية يأخذ مواقعه على الأرض، وتمددت على الجانب الآخر أبعاد الشيوعية والاشتراكية، بدأ مفهوم التضامن بين الدول والشعوب التي تتفق أيديولوجياً في سياساتها يتضح، كذلك الذي كان موجوداً بين الاتحاد السوفييتي والصين، أو بين دول التحالف خلال الحرب العالمية الثانية وأميركا.
لا يخلو الموضوع من بعض السخرية، فإنّ حكومات العالم الكبرى وصاحبة الأدوار البارزة في سلم وحرب العالم على اطلاع واسع بمأساة فلسطين
لكن هذا المفهوم، تطور كثيراً باقتراب البشرية من نهايات القرن العشرين، وتغير طبيعة العلاقات التي أتاحت التكنولوجيا ووسائل المواصلات لها فرصة لتكون أسرع وأسهل، مما جعل شعوب العالم تطلع عموماً على أوضاع بعضها البعض، وتتبادل المعرفة، وتتضامن في قضاياها الإنسانية المشتركة.
ويأتي يوم التضامن مع الشعب الفلسطيني، وظروفه تحت الاحتلال، ضمن قائمة طويلة من الأيام تعلن فيها هيئة الأمم المتحدة تضامنها مع أحداث كثيرة بدءاً من مرضى السرطان، وليس انتهاء بضحايا الحروب، ولا يخلو شهر من شهور العام من هذه الأيام على كثرتها، مما يجعل يوم التضامن مع الشعب الفلسطيني مجرد رقم آخر على القائمة، حيث أعلن عنه للمرة الأولى في الثاني من ديسمبر عام 1977.
واختير يوم التاسع والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) من كل عام، كيومٍ رسمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني بفعل ما ينطوي عليه هذا التاريخ من مأساة إذ إنه يتطابق مع تاريخ إعلان الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها تقسيم فلسطين عام 1947.
وتكمن المهمة الأساسية لهذا اليوم بتذكير العالم أن الشعب الفلسطيني لم يحصل حتى اليوم على حقه بتقرير مصيره دون تدخل خارجي. ويضاف إليه قيام مكاتب الأمم المتحدة في أنحاء العالم بعرض معلومات ووثائق مطبوعة ومصورة ومرئية حول فلسطين، كما تتطوع بتزويد الحكومات بهذه الوثائق حول القضية الفلسطينية وفق ما ينشره موقع الأمم المتحدة على الإنترنت.
ولا يخلو الموضوع من بعض السخرية، ذلك أن حكومات العالم الكبرى وصاحبة الأدوار البارزة في سلم وحرب العالم منذ بداية القرن العشرين المنصرم، على اطلاع واسع بشؤون فلسطين، خصوصاً بريطانيا، التي كان لها الدور الأبرز باحتلال فلسطين. حيث باتت الحملات الشعبية فيها لمقاطعة إسرائيل اقتصادياً وثقافياً، أوعى وأكثر إنسانية وتضامناً من حكومة بلادها التي تتجاهل حتى مسؤوليتها الأخلاقية تجاه فلسطين.
ومنذ عام 2005، انطلقت واحدةٌ من أكبر حملات المقاطعة ضد إسرائيل "Boycott Divestment and Sanctions Movement" أو "BDS" اختصاراً، أطلقتها منذ ذلك الحين منظماتٌ فلسطينية غير حكومية تجاوز عددها 170 منظمة، ووجدت صدى لها في العالم وأوروبا تحديداً، ومن أبرز أهداف الحملة المستمرة حتى اليوم، احترام حق المساواة تجاه المواطنين الفلسطينيين، إيقاف الاستيطان وبناء الجدار العازل، واعتراف إسرائيل بالحقوق الكاملة للمواطنين الفلسطينيين.
لم تسلم حملات المقاطعة التي انطلقت من فلسطين تجاه أوروبا من محاولات القمع الإسرائيلية أيضاً
الأثر الذي أحدثته هذه الحملة، لم يقتصر على المقاطعة الشعبية الاقتصادية، ففي بريطانيا، اتجهت رابطة الأساتذة الجامعيين الداعمة للحملة إلى مقاطعة إسرائيل بكل ما يتعلق بالإنسان من نشاطاتٍ أكاديمية وثقافية، ففي إبريل 2005 تمت مقاطعة جامعتين إسرائيليتين هما "بار إيلان" و"حيفا"، وخلال 2007، صوت اتحاد الأكاديميين في بريطانياً أثناء مؤتمره الأول لمقاطعة المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية.
وفي فرنسا، اجتمعت عدة منظمات فرنسية عام 2009 لتنظيم مقاطعة فرنسية لإسرائيل، شاركت فيها عدة منظماتٍ وجمعياتٍ وأحزاب ركزت على أن إسرائيل تتعامل مع الفلسطينيين بعنصرية في مؤسساتها العسكرية والقضائية والاجتماعية مما يجعل من مقاطعتها ضمن هذه المجالات مطلوباً.
ولم تسلم هذه الحملات التي انطلقت من فلسطين تجاه أوروبا من محاولات القمع الإسرائيلية أيضاً، حيث نشر المرصد الأورو متوسطي لحقوق الإنسان على موقعه في آذار مارس 2016 ما قال في حينه إنه تهديد إسرائيلي لحملات المقاطعة وفقاً لـ "التصريحات التي أدلى بها وزير الاستخبارات الإسرائيلي ووزير المواصلات "يسرائيل كاتس"، أثناء مشاركته في المؤتمر الأول لمواجهة حملة المقاطعة العالمية للحكومة الإسرائيلية وبضائع المستوطنات (المعروفة باسم BDS)، والذي أقامته حيث دعا إلى ملاحقة واستهداف قادة ونشطاء «حملة المقاطعة»".
وتشير تصريحات "كاتس"، وغيره من مسؤولين إسرائيليين، إلى المأزق الأخلاقي والإنساني الذي يدفع إسرائيل وحكومتها لمحاولة تكميم الأفواه، ومنع شعوب العالم من التضامن مع الشعب الفلسطيني، إضافة إلى تبجح إسرائيل بقدرتها للدعوة إلى قمع أي احتجاجات ضد سياساتها العنصرية تجاه الفلسطينيين، حتى لو كانت صادرةً عن غير فلسطينيين، وهو ما يؤشر إلى المدى الذي وصلت إليه إسرائيل من اللامبالاة تجاه القوانين الدولية والحقوق الإنسانية والمواثيق الدولية.
ورغم إنها تصر على كيانها كدولة، إلا إنها تفضل استخدام العنف في مواجهة حملاتٍ سلمية تطالبها بمراجعة مواقفها السياسية تجاه من احتلت أرضهم بدعم رسمي دولي عام 1948.
ولعل انتفاضة الشعب الفلسطيني ضد إسرائيل "عام 2000"، ووصول صورها الحية إلى العديد من أنحاء العالم، سمحت بمساحاتِ تضامن شعبيٍ أوسع مع الشعب الفلسطيني، ومنحت إسرائيل إحساساً بالقلق رغم العنجهية الظاهرة على تصرفاتها، ذلك أن فكرة التضامن الشعبي المتجاوز للحدود الجغرافية، تثير قلق العديد من الحكومات في العلم حتى لو كانت لا مبالية، مما سيدفعها ربما للضغط على إسرائيل بفعل الضغط الشعبي من قبل مواطنيها، وهو ما لم تحفل به بريطانيا كثيراً حين تظاهر عشرات الآلاف من مواطنيها دعماً لحقوق الشعب الفلسطيني خلال انتفاضة 2000.
من أبرز أهداف الحملة المستمرة حتى اليوم، احترام حق المساواة تجاه المواطنين الفلسطينيين
مواقع التواصل الاجتماعي، التي خلقت هي الأخرى مساحاتٍ لوجود مجتمعاتٍ رقمية تتشارك اهتماماتٍ متساوية أو مختلفة، صارت أيضأً "خصوصاً في عالمنا العربي"، تستغل هذه المناسبة من كل عام لإطلاق حملاتها للتذكير باسم فلسطين، رغم مواجهتها هي الأخرى لحملاتٍ مضادة من الجيوش الإلكترونية لأجهزة الأمن الإسرائيلية، وتعامل موقع التواصل الأشهر "فيسبوك" على إنه قارة جديدة تضاف إلى قارات العالم، وتبدو إدارته كأنها تريد لسكان هذه القارة أن يكونوا غير معنيين بتاريخ القارات الأخرى ، وهو ما يساعده على اتخاذ الحياد الشكلي، وحذف "هاشتاغات" هذه الحملات في أحيان كثيرة".
وبكل حال، لا تغيب فلسطين بظروف شعبها الواقع تحت الاحتلال، عن ذاكرة أفرادٍ ومؤسساتٍ مختلفين حول العالم، وتبقى جديرةً بالتضامن اليومي، تماماً مثلما تتعرض هي وشعبها إلى القمع يومياً، وتظل مسلوبة الحقوق، وتمثل طالما هي هكذا، معقلاً أساسياً من معاقل الإنسانية في العالم.