لا يعرفون غلوًّا أو تعنُّتًا، بل هم أبناء السماحة والاعتدال، بديعون وليسوا مبتدعين، متفانون فى عبادته، وزاهدون في الثروة والمظاهر، لا يبتغون ملذَّات الدنيا الفانية، ومتقشِّفُون فى كل شيء، ومكتفون بقلوبهم النقية المتطلعة إلى الحُب، وبعيدون عن التحارُب والتقاتُل والتطاحن والتكالب والمذهبية، مشغولون بتصفية قلوبهم، فهم يجاهدون روحيًّا ولا يحملون أى أنواع من الأسلحة، مسالمون بطبيعتهم، وبحكم أخلاقهم وتربيتهم النفسية، ويسلكون طريق الحق والهداية، يبحثون عن الحقيقة المطلقة التي يسعون إليها، ويطلبون الوصول إليها.
ويؤمنون بأن الذهاب إلى الله وعبادته والتضرُّع إليه على عدد أنفاس البشر، ويرشدون الخلق إلى طرق الحق، يدفعون الشر ويستجلبون الخير.
وهنا علينا أن نستعيد ما كتبه الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربى شعرًا عن موقف المتصوفة من الأديان والمعتقدات:
لقد كنتُ قبل اليوم أنكرُ صاحبى
إذا لم يكُن ديني إلى دينِه داني
لقدْ صارَ قلبي قابلاً كلَّ صورةٍ
فمَرْعى لغِزْلاَنٍ وديْرٌ لرُهْبانِ
وبَيْتٌ لأوثانٍ وكعبة ُ طائفٍ
وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قرآنِ
أدينُ بدينِ الحبِّ أنَّى توجَّهتْ رَكائِبُهُ
فالحُبُّ دينِي وإيماني)
وللأسف يقول المتخلفون من السلفيين والوهابيين عن ابن عربى: «الشيخ الأكفـر محيي الشرك»، ومن يصفه بذلك من المؤكَّد أنه لم يقرأ كتابًا واحدًا له.
المتصوفة فى مصر أو في غيرها من الدول مستهدفون ومُطاردون ومُحاربون من المتشدِّدين قديمًا وحديثًا، ويُسَاء الظن بهم دائمًا، والأمر لا يختلف كثيرًا عندما سيق إلى الذبح قطبان صوفيان من أقطاب الوقت، وهما الحلَّاج والسُّهروردى، حيث تُهدم أضرحة الأولياء والمتصوفة، أو تُحرق مساجدهم أو يتم تدميرها، والاعتداء على المصلين بها، إذ يرى السلفيون بطوائفهم المختلفة أن الصوفيين كفَّار وملاحدة، ويناهضونهم، ويناصبونهم الكراهية والعداء، وفى زماننا هذا يُكفِّر الوهابيون- أينما كانوا- المتصوفة ويحرقون كتبهم ويمنعونها، ويستهدفون المكتبات التى تبيعها، والناشرين الذين ينشرونها.
ففى مصر مثلاً رأينا سلفيين متطرِّفين ضالين مُضِلِّين مأجورين ومرتزقة من داعش أو سواها من جماعات الإسلام السياسي قتلت الأب الروحي للصوفيين الشيخ سليمان أبوحراز السواركي الأشعري الشافعي في سيناء، وأحد أبناء قبيلة السواركة، وكان ضريرًا ومُسنًّا يبلغ عمره حوالى مائة سنة، وخير من يمثِّل الإسلام المعتدل، الذي يتنافى مع أفكار الجماعات المتطرفة والشاذة، التي تلبس الدين رداءً خارجيًّا لها، حيث اتهمت الشيخ الزاهد بالكهانة والسِّحر، وادَّعاء علم الغيب، ودعوة الناس للشِّرك «وذبحته، وذبحت معه الشيخ قطيفان المنصورى، الذى تم قتله بالطريقة نفسها، وبآلتهم نفسها، وقد وزَّعت داعش، أو تنظيم أنصار بيت المقدس، أو ولاية سيناء (لا فرق عندى بينها في التطرُّف والتشدُّد وممارسة الإرهاب باسم الدين) فيديو يصوِّر مقتلهما مصحوبًا بجُملة: «تنفيذ الحكم الشرعي على كاهنين»، وكان ذلك فى سنة 2016 ميلادية.
كأن هؤلاء القتلة المجرمين لا يدركون أن الدين- أي دين- يُحرِّم سفك دم الأبرياء، ويُشدِّد على حرمة دماء العجزة والضعفاء وكبار السن.
كما فجَّرت عددًا من الأضرحة الخاصة بالصوفيين فى كل من الشيخ زويد والروضة بسيناء، ثم فجَّرت مسجدًا فى يوم جمعة (مسجد قرية الروضة)، وكان مقرًّا للطريقة الجريرية الأحمدية الصوفية، ببئر العبد فى سيناء، أثناء صلاة الجمعة، وسميت هذه الطريقة بالجريرية نسبةً إلى مؤسِّسها الشيخ عيد أبوجرير «1910– 1971 ميلادية» المدفون في قرية سعود التي يسكنها أهل قبيلة الطحاوية أخوال ابنه الوحيد أحمد، وقد رعاها بعد رحيله ابنه أحمد الأمين، توفى عام 2014م، وكان للشيخ عيد أبي جرير دور مهم فى مقاومة أهل سيناء للعدو الإسرائيلي عندما كان يحتل جزيرة سيناء، ويعد من الرموز الكبار لمجاهدى سيناء.
حيث كان المصلون المسالمون بين يدي الله، الذى يعتقد السلفيون الوهابيون (عُبَّاد ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، ومحمد بن عبدالوهاب) أنه مِلكُهم وحدهم، ويحتكرونه لهم، وأن سواهم كفَّار وزنادقة وملحدون ومشركون ومُهرطقون وخارجون على الدين. ويُخْرِج السلفيون- والوهابيون منهم فى المقدمة- الصوفيين من مذهب أهل السنة والجماعة، ويعتبرون أن من رجع عن طريق التصوف فقد تاب وعاد إلى ربه.
وقد أحكم القتلة قبضتهم على المسجد وأبوابه، وأطلقوا النيران على المصلين وهم يهتفون: «اقتلوا الكفار والمرتدين». فقُتل نحو ثلاثمائة وهم بين يدى الله، وفى مسجده بقرية الروضة، التى يسكنها مسلمون ينتمون إلى الطريقة الصوفية الأحمدية أو البدوية، وهى إحدى الطرق الصوفية السنيّة، التى تنسب إلى الشيخ أحمد بن على إبراهيم البدوي، السيد (فاس 596 هـجرية/ 1199 ميلادية- طنطا 675 هـجرية/ 1276 ميلادية) المُلقَّب بالشيخ المعتقد الصالح أبى الفتيان، وعُرف بأبى اللثامين السطوحى، وله الكثير من الألقاب، أشهرها شيخ العرب، وينتسب السيد البدوي من جهة أبيه إلى الحُسيْن بن على بن أبى طالب، وقد عاش فى العصر المملوكي، ونشر طريقته من طنطا.
ولمَّا كان المصلون يهرولون خارجين من المسجد، لينجوا من القتل، كأنني سمعت أحدهم يردِّد ما قاله الحلاج يوم مقتله: (... هؤلاء عبادك قد اجتمعوا لقتلى تعصُّبًا لدينك، وتقرُّبًا إليك. فاغفر لهم. فإنك لو كشفتَ لهم ما كشفتَ لي لما فعلوا ما فعلوا، ولو سترتَ عني ما سترتَ عنهم لما ابتُليتُ بما ابتُليت. فلك الحمد فيما تفعل، ولك الحمد فيما تريد).
إن تاريخ المسلمين ملآن بتعذيب وقتل المتصوفة والعلماء والفقهاء والأئمة والشعراء، ولو منحتُ نفسي فرصة الجمع والإحصاء لاحتجتُ سنواتٍ، كي أفي بملف كهذا.
أحمد الشهاوي – عن صحيفة "المصري اليوم"