من الزيف تصديق زعم واشنطن بأنّها تبحث عن العدالة في مقتل خاشقجي، بعد أن تولّت محكمة سعودية محاكمة المتهمين في القضية، وخرج ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان، ليعلن عن تحمّله المسؤولية، لا لشيء سوى أنّ الجريمة وقعت في عهده.
اقرأ أيضاً: التوظيف الأمريكي لمقتل خاشقجي والاتفاق النووي مع طهران.. ما العلاقة؟
لكنّ واشنطن لا تأبه بالعدالة، أو استفادة إدارة المملكة من الخطأ الكارثيّ الذي حدث، بل تريد تنحية الأمير محمد من منصبه كولي للعهد، كونه ليس رجلها المنشود، وربما لو وقعت الجريمة ذاتها في ظلّ وجود وليّ عهد آخر لما تصدّرت واشنطن لتبني القضية، وتحويلها إلى أداة للتدخل في شؤون المملكة، وتغيير سياستها.
ويبدو أنّ واشنطن ساءها أن يمتلك الحكام العرب زمام أمورهم، ويضعوا مصالح بلادهم قبل المصالح الأمريكية، خصوصاً بن سلمان، الذي قطع أذرع التطرف الديني في المملكة، وخطا في إقرار حقوق الإنسان خطوات جيدة، ودخل حرب اليمن لتأمين خاصرة بلاده من التمدّد الإيراني من خلال الحوثيين.
تهافت الرواية الأمريكية
واستند تقرير وكالة المخابرات الأمريكية حول مقتل الصحفي السعودي، جمال خاشقجي، على مبدأ واهٍ في اتّهام ولي عهد المملكة، الأمير محمد بن سلمان، بالمسؤولية عن الجريمة، وهو أنّ "الأمير محمد يسيطر على المملكة، ولن يفعل مسؤول شيء دون أوامر مباشرة منه".
واشنطن تزعم قدرتها على تنحية الأمير محمد بن سلمان بسبب تصدّيه للتطرف الديني في المملكة، وأطاحته محسوبين على جماعة الإخوان وتيارات مرتبطة بها
ويفترض المبدأ السابق مسلَّمتين؛ أنّ مقتل خاشقجي كان مع سبق الإصرار والترصد، وهو ما نفته المملكة، وأوضحت أنّ الجريمة وقعت بعد خلاف تطور إلى شجار، والمسلَّمة الثانية أنّ رأس الدولة مسؤول عن كلّ صغيرة وكبيرة في الجهاز الحكومي، وهو أمر غير واقعي، ولو طبقته واشنطن على رؤسائها لكانوا جميعهم اليوم في السجون، أو أُعدموا بالكرسي الكهربائي، حسب الولاية التي يحاكمون فيها.
ولم يُحاسب رئيس أمريكي عن مسؤوليته عن العمليات العسكرية التي تسبّبت في مقتل مئات الآلاف من البشر، وتدمير دول وتشريد الملايين، ولم يسألهم أحد يوماً عن مسؤوليتهم عن سلوك جنودهم، وحتى قيادات قواتهم المسلحة.
ولم يأتِ تقرير الاستخبارات الذي أمر الرئيس الأمريكي، جو بايدن، برفع السرية عنه بدليل واحد على تورّط ولي العهد السعودي في جريمة مقتل جمال خاشقجي، بل استند على تحليلات رجال الاستخبارات، التي طالما كانت مسيسة بامتياز، ولا ينسى أحد تحليلاتها عن امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، لتبرير الغزو الأمريكي للعراق، ثم ظهرت الحقيقة بعدم وجود لأسلحة نووية في العراق.
وجاء في التقرير، الذي نشرته وسائل الإعلام، في 26 شباط (فبراير) الماضي، "نحن نقدّر أنّ ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، وافق على عملية في إسطنبول بتركيا لاعتقال أو قتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي".
اقرأ أيضاً: خاشقجي.. أيقونة الابتزاز
ويبني المحللون تقديرهم على فرضية أنّ "سيطرة ولي العهد على صنع القرار في المملكة، والمشاركة المباشرة لمستشار رئيسَي وأعضاء من رجال الأمن الوقائي لمحمد بن سلمان في العملية، ودعم ولي العهد لاستخدام الإجراءات العنيفة لإسكات المعارضين في الخارج، بما في ذلك خاشقجي".
الابتزاز الأمريكي
وعلى خلفية مقتل خاشقجي، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على "وحدة التدخل السريع"، وهي قوة أمنية ساهمت في تنفيذ قرارات ولي العهد السعودي في مكافحة الفساد، وتتهمها واشنطن بالضلوع في مقتل خاشقجي، كما فرضت واشنطن عقوبات على 76 مسؤولاً سعودياً، في القضية ذاتها.
اقرأ أيضاً: تقرير خاشقجي وفشل استهداف السعودية
وفي خطوة لا تفسير لها سوى الابتزاز، أعلن وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، اعتماد سياسة "حظر خاشقجي" الجديدة، التي تسمح للخارجية الأمريكية، بـ "فرض قيود على تأشيرات الأفراد، نيابة عن حكومة أجنبية، الذين يُعتقد أنهم شاركوا بشكل مباشر في أنشطة مناهضة للمعارضين جادة، تتجاوز الحدود الإقليمية، بما في ذلك تلك التي تقمع أو تضايق أو تراقب أو تهدّد، أو تضرّ بالصحفيين أو النشطاء أو غيرهم من الأشخاص الذين يُنظر إليهم على أنّهم معارضون لقيامهم بعملهم، أو الذين ينخرطون في مثل هذه الأنشطة فيما يتعلق بأسر هؤلاء الأشخاص أو المقربين منهم، وقد يخضع أفراد عائلة هؤلاء الأفراد أيضاً لقيود التأشيرة بموجب هذه السياسة، عند الحاجة".
وتتعدى السياسة السابقة قضية خاشقجي إلى أداة تسمح لواشنطن بفرض عقوبات على الدول التي لا تدور في فلكها، ومن غير الوارد أن تطبّق واشنطن هذه السياسية بحيادية، في دولة تستخدم قضية حقوق الإنسان في ابتزاز الدول، ومع ذلك تحمل التسمية نية أمريكية لابتزاز المملكة، خاصة ولي العهد، في السنوات المقبلة، لدفعه إلى القبول بسياساتها، لتحييد دور المملكة في الأزمة الإيرانية، ومنعها من ضمان أمنها في اليمن، وإعادة نفوذ الإسلام السياسي فيها.
بايدن والإخوان
يبدو أنّ واشنطن تريد تنحية الأمير محمد بن سلمان بسبب تصدّيه للتطرف الديني في المملكة، والذي أطاح محسوبين على جماعة الإخوان وتيارات مرتبطة بها، مستغلّة في ذلك قضية خاشقجي كورقة ضغط على ولي العهد، خاصة أنّ خاشقجي كان أحد داعمي الإخوان المسلمين.
مدير منتدى شرق المتوسط للدراسات السياسية والإستراتيجية، محمد حامد لـ "حفريات": واشنطن لن تتخلى عن علاقتها الإستراتيجية بالمملكة، لكنّها تضغط لتحقيق مزيد من التدخّل
وتريد واشنطن نقل عرش المملكة إلى ولي عهد آخر يدعم إعادة الإخوان إلى المشهد العربي، ويتصدّى لدولتَي؛ مصر والإمارات، اللتين تقودان جهوداً كبيرة ضدّ الإسلام السياسي في المنطقة العربية، وذلك على حساب أمن المملكة، والإصلاح الاجتماعي الذي شرع فيه ولي العهد.
ويسير بايدن على خطى الرئيس الأسبق، باراك أوباما، الذي وضع سياسة تمكين الإسلام السياسي من حكم المنطقة العربية، ظنّاً منه أنّ وجودهم سيقضي على الإرهاب، إلى جانب تبعية الإخوان لواشنطن، وتوظيفهم في خدمة المصالح الأمريكية.
ولا يمكن تصديق أنّ واشنطن ترى في جماعة الإخوان المسلمين البديل الوحيد للمنطقة؛ لأنّه القادر على مكافحة الإرهاب، بينما كانت الجماعة هي الأم التي فرّخت الإرهاب في العالم الإسلامي، وتنخرط في فكرها جلّ الجماعات الإرهابية التي تنتسب للإسلام، وتعلم أجهزة الاستخبارات والمؤسسات البحثية دور جماعة الإخوان في صناعة الإرهاب وترويجه، ولذلك فواشنطن تدعم تصعيد الإخوان للسلطة لتبعيتهم لها، حتى على حساب بلدانهم.
اقرأ أيضاً: لماذا تحضُر جريمة خاشقجي وتغيب جرائم الإخوان وإيران عن رادار بايدن؟
وأماطت الولايات المتحدة السرّية عن وثائق أعدتها وكالة الاستخبارات المركزية، عام 2018، حول الإخوان المسلمين، وحملت الوثائق عنوان "بناء قواعد الدعم - أساليب جماعة الإخوان المسلمين في نشر أفكارها وتنفيذ مخططاتها ضدّ المجتمع المصري والمجتمع العربي عموماً"، وتعود إلى العام 1986.
اقرأ أيضاً: تقرير الاستخبارات الأمريكية حول مقتل خاشقجي... حقائق تشكك بمصداقيته
وقدّرت الوثائق عدد أفراد الجماعات الإرهابية في العالم بنحو 30 ألف فرد، من 24 جماعة متطرفة، وذكرت دور جماعة الإخوان المسلمين في نشر مفهوم العنف.
كما أنّ تجربة الإخوان المسلمين عقب أحداث الربيع العربي في 2010، كشفت تورّط الجماعة في الإرهاب، والتعاون مع جماعات مصنفة إرهابياً دولياً، كما حدث في سوريا والعراق وليبيا وتونس، وذلك بدعم قطري وتركي.
ويؤكد مدير منتدى شرق المتوسط للدراسات السياسية والإستراتيجية، محمد حامد، أنّ واشنطن لن تتخلى عن علاقتها الإستراتيجية بالمملكة، لكنّها تضغط لتحقيق مزيد من التدخل في المملكة.
وعن توظيف قضية خاشقجي، يقول حامد لـ "حفريات": "إخراج التقرير بهذه الطريقة نوع من المقامرة في العلاقات مع السعودية، ويخدم دور أعداء المملكة في الإقليم، على رأسهم الإسلام السياسي، الذي همّشته القيادة السعودية التي تولّت الحكم منذ 2015، وتبنت إستراتيجية مكافحة الفكر المتطرف، الذي سيطر على المملكة منذ السبعينيات، عبر تيار الصحوة وغيره".