خلقت الحركات والجماعات السياسية التي تتبنى الإسلام، أو تقحمه قصراً في سياساتها ومنهجياتها، إشكالاً حاداً في هويتها كجماعة وحركة دينية أو سياسية، مما أحال المشروع الإسلامي برمّته، الذي تتبنّاه تلك الحركات والجماعات، إلى مسار قابل للتأويل السياسي أكثر منه تأويلاً دينياً، ولعلّ الممارسات للحركات والجماعات الناشطة التي يتزعمها الإسلاميون، قد اقتربت من فكرة أنّ الإسلام يتم اختطافه، أو بعبارة أكثر لطفاً ربما، اختصاره من قيمة تاريخية مستمرة، إلى مجرد وسيلة منتجة لغايات السياسة وأهدافها، ما ساهم في إنتاج مفهوم (الإسلام السياسي)، وهو ما دعا كثيراً من العلماء إلى الدعوة لإيقاف النمو غير المتوازن للفكرة السياسية في الإطار الديني، بمعنى أنّ تطويع الفكرة الدينية للغايات السياسية لم يكن بريئاً، حتى في عصور الخلافات الإسلامية المتأخرة؛ حيث نتجت وقتها الفتن وتخلقت الصراعات.
تبدو الجماعة اليوم في معترك تحدي الزوال أو الاضمحلال أو في أحسن الأحوال انطفاء البريق
المؤسس لجماعة الإخوان المسلمين، حسن البنا، أدرك خطورة الزج بالجماعة الدينية الناشئة في معترك السياسة ومنافساتها المحمومة، فأعلن قائلاً: "لسنا حزباً سياسيّاً"، لكنّه عاد وجعل الباب موارباً، ربما لدخول تاريخي وعريض في السياسة وأغراضها وأهدافها وحتى لوثاتها، فقال مستكملاً عبارة "لسنا جماعة سياسية ..."، و"إن كانت السياسة على قواعد الإسلام من صميم فكرتنا".
على يد المؤسس، كانت الانطلاقة الأولى للجماعة بثوب الواعظ وعمامة رجل الدين، وطوال كلّ تلك المدة دخلت الجماعة في تحديات كثيرة، على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري، إلى أن وصلت مرحلة نضوب مخزونها من العناصر نتيجة الاعتقالات، وفتور حركة التنظيم، وما يسمى بـ"الدعوة الفردية" التي تعدّ المغذي الإستراتيجي للجماعة بالعناصر، وقد استمر ذلك، بحسب الباحثين في شؤون الحركات الإسلامية، إلى العام 1974، حيث بدأ التأسيس الثاني للجماعة بانطلاقها نحو التوسع على مستوى ضم الأفراد من خارج البيت الإخواني، وهو الأمر الذي كان متعسراً جداً في نهايات التأسيس الأول.
اليوم، تبدو الجماعة في معترك تحدي الزوال، أو الاضمحلال، أو في أحسن الأحوال انطفاء البريق، إلا أنّه ثمة محاولات تبدو جادة في محاولة خلق تأسيس ثالث، عنوانه الخروج من عباءة المرشد "كما فعلت جماعة الأردن"، التي أطلقت على نفسها بعد انشقاقها، أول الأمر، "جمعية جماعة الإخوان المسلمين القانونية" تمييزاً لها عن الجماعة الأم التي ماتزال تحافظ على زخم حضورها الأقوى، بعد أن أعلنت إعلانين مهمين يشكلان محور هذا التأسيس الجديد، الأول: فكّ الارتباط القانوني مع الجماعة الأم في القاهرة والتنظيم العالمي، معتبرة نفسها حركة وطنية وجمعية وطنية، ليس لها أية تبعيات خارجية على المستوى التنظيمي.
أدركت جماعة الأردن أنّ الاستغراق في فكرة توظيف الدين سياسياً خطير وله مآلات غاية في التحدي
أما الإعلان الثاني ففكّ الارتباط مع السياسة، وهو ما أعلنه المراقب العام الجديد للجماعة، الدكتور شرف القضاة، في حفل تكريم أقامه على شرف المراقب العام السابق، عبد المجيد الذنيبات، الذي قاد ما عرِف بحركة التصويب القانوني للجماعة؛ حيث قال إنّ جمعية جماعة الإخوان المسلمين، تفصل فصلاً تاماً بين الدعوي والسياسي، وأنّها جماعة دعوية في السياق الاجتماعي والثقافي.
كان هذا الأمر -القطيعة مع السياسة- سابقاً، يعدّ محرضاً على فصل الديني عن الدنيوي، أو فصل الدين عن الدولة، وهو محرّض خطير، لكن جماعة الأردن -بحسب متابعين- تلتفت بعناية لهذا المعطى، باعتبارها جماعة دعوية قائمة لا تعنيها كثيراً فكرة الاختصاص بالصفة (الإسلامية) دون غيرها، بقدر ما تعنيها أن يكون نشاطها كلّه موجهاً نحو غرس القيم النبيلة، وحراسة الفضيلة، وإقامة أركان الأخلاق، فهي نشاطات متنوعة ومقبولة، والنشاط الإسلامي يتبناها ويتجاوزها، كما أنّها لا تنحصر بالصفة الإسلامية حتماً.
المراقب العام الجديد قال إنّ جمعية جماعة الإخوان المسلمين تفصل فصلاً تاماً بين الدعوي والسياسي
أدركت جماعة الأردن الجديدة أنّ الاستغراق في فكرة توظيف الدين سياسياً خطير، وله مآلات غاية في التحدي أمام الجمهور الإسلامي الفطري الذي يشكل المجتمع العمومي غالبيته، وذلك من حيث فهمهما وقناعاتها، أي جماعة الأردن، أنّ إعادة إنتاج فكرة الإخوان المسلمين، بإبطال مفعول التنظيم العالمي، والانسحاب من مكتب الإرشاد، والقطيعة مع الخارج كلّه تنظيمياً، وإعادة التموضع وطنياً، هي الطريق الوحيد أمام الجماعة للبقاء على قيد الحياة، فهل تنجح وهي ما تزال تحمل اسم الإخوان المسلمين؟!
في لقاء سابق، قال المراقب العام الأسبق لجماعة الإخوان المسلمين، سالم الفلاحات، لدى سؤال وجّهتُه له مفاده: هل يشكّل اسم الإخوان المسلمين عبئاً حقيقياً على حركة التأسيس الجديدة للإخوان المسلمين في الأردن؟ وإذ حاول التفلت من الإجابة بكلمات عمومية، إلا أنّه اختصر جملة القول بـ"ربما... لكن لا مجال لمحاولة تغيير الاسم".