البحث العلمي هو الملاذ دائماً للدولة التي تسعى للأفضل، والمنافسة في ظلّ عالم يسارع الخطى نحو التقدم، وهو دليل أيضاً على نهضة دولة دون غيرها، لكن عندما تكون الأبحاث العلمية المقدمة في الجامعات ومراكز الأبحاث ليست ملكاً لأصحابها، وقد سرقوها من مجلات أجنبية ونسبوها إلى أنفسهم زوراً، فماذا يكون مصير تلك الدولة؟!
اقرأ أيضاً: تفاقم جرائم السرقات الأدبية يدق ناقوس الخطر
في دراسة بعنوان "البحث العلمي في مصر، علماء بالجملة ورؤية غائبة"، نشرها مركز "هردوا" لدعم التعبير الرقمي، عام 2015، كشف "الاتحاد العام للمصريين في الخارج" أنّ تعداد العلماء المصريين في الخارج 86 ألف عالم، وأنّ مصر تأتي في المركز الأول في عدد العلماء على مستوى العالم، وأنّ من بين المصريين في الخارج 42 عالماً مصرياً في وظيفة رئيس جامعة، إلى جانب وزير بحث علمي في كندا، مصري الجنسية، وكذلك يوجد 3 آلاف عالم مصري في أمريكا في التخصصات كافة، هذا فيما خصّ العلماء المصريين في الخارج، لكن عن البحث العلمي داخل الجامعات المصرية قال مسؤولون شيئاً آخر!
سرقات من أجل الترقية
الدكتور أشرف الشيحي، الوزير السابق للتعليم العالي والبحث العلمي المصري، قال في ندوة بمعرض القاهرة الدولي للكتاب، عام 2017: إنّ التصنيفات العالمية أكّدت أنّ مصر هي الأعلى في معدلات السرقات العلمية. وفي حوار صحفي مع أول وزيرة للبحث العلمي منذ إنشاء الوزارة، الدكتورة فينيس جودة، التي تولتها منذ عام 1993 وحتى 1997، كشفت المشكلة الأخطر في مصر، وهي "سرقة الأبحاث العلمية". وقالت فينيس: "هناك دراسة دولية تؤكد أنّ مصر تحتل المرتبة الثانية على مستوى العالم في سرقة الأبحاث العلمية، و"هي فضيحة علمية كبرى"، ويوجد العديد من الباحثين داخل المراكز البحثية والمعاهد والجامعات أيضاً يسرقون أبحاثاً دولية أو من داخل مصر، ويحرفون فيها بعض الكلمات للهروب من أيّ اتهام، رغم أنّه لا بدّ على كلّ باحث، عندما يستعين ببعض المعلومات من بحث منشور بإحدى المجلات، من أن يشير إلى المرجع الذي تمّت الاستعانة به، لكن ما يحدث أنهم ينسخون بعض المعلومات من البحث وصياغتها بأسلوب آخر، وكلّ هذا من أجل الترقية البحثية".
العديد من المجلات العلمية الدولية في تخصصات مختلفة سحبت 24 بحثاً علمياً لعلماء مصريين خلال الأعوام القليلة الماضية
تلك التصريحات من مسؤولي البحث العلمي في مصر دفعت فايز بركات، عضو لجنة التعليم بمجلس النواب، إلى تقديم طلب إحاطة أوائل عام 2019، موجّه إلى وزير التعليم العالي، الدكتور خالد عبد الغفار، حول ظاهرة انتشار الشهادات العلمية "المضروبة" والأبحاث العلمية داخل الجامعات المصرية، والتي يستخدمها أساتذة الجامعات في الترقي والحصول على المناصب الإدارية داخل الجامعات، بما يهدّد مستقبل البحث العلمي في مصر، مضيفاً في بيان صحفي: "هذه الظاهرة تفسّر حالة الركود التي تنتاب البحث العلمي وسبب عدم مساهمته بإيجابية في تطوير الواقع الاجتماعي".
جامعة القاهرة صاحبة النصيب الأكبر
في مقال منشور بجريدة "الأهرام"، شباط (فبراير) 2019، كتب حسن فتحي: "تبيّن أنّ العديد من المجلات العلمية الدولية في تخصصات مختلفة سحبت 24 بحثاً علمياً لعلماء مصريين خلال الأعوام القليلة الماضية، وتمّ الإبقاء على البحوث في الإصدار الإلكتروني بنفس الترقيم وتاريخ النشر، مع إضافة كلمة "retracted" (تمّ سحبه)، مُخضبة باللون الأحمر، وبالحجم الكبير، على صفحات البحث المرفوض، مع إضافة الكلمة السابقة نفسها قبل اسم البحث، ليعرف كلّ زائر أنّ الدراسة لم تعد مرجعاً يُعتدّ به، ومن مجمل ما تمّ حصره مُنيت جامعة القاهرة بأكثر عدد من البحوث المرفوضة، تليها جامعة أسيوط ثم المنصورة!".
السرقات العلمية موجودة ومنتشرة في العالم كلّه لذلك أصبحت هناك أدوات تفحص البحث العلمي وتقارنه بالأبحاث المنشورة
وأضاف فتحي في مقاله: "لكن أن يصل النصب إلى نشر بحث طبي في واحدة من أكبر المجلات العلمية في العالم، وهي "نيتشر" (Nature)؛ فهذا أمر مُحزن جداً، فقد نشر باحثان في مجال سرطان الأطفال من مستشفى "شهير" مبعوثان للعمل في جامعة بايلور (Baylor) الأمريكية، بحثاً في هذه المجلة عن توصلهما لطريقة تنفذ بها الخلايا المناعية القاتلة إلى داخل المخّ، لتدمر واحداً من أخطر أنواع السرطانات، ونشر الباحثان المصريان صوراً مختلفة ورسومات توضيحية لابتكارهما "المزعوم"؛ مما عدّه الجميع سبقاً علمياً، لتكتشف المجلة بعد تلقي العديد من الشكاوى، أنّ الصور والرسومات منقولة ومُعدَّلة، ولاتوافق البيانات المكتوبة بالبحث!".
اقرأ أيضاً: موقع لكشف السرقات العلمية والانتحال في البحوث الأكاديمية
تصريحات مسؤولي البحث العلمي في مصر أعطت مصداقية للأرقام المقدمة حول تصدّر مصر عالمياً في مسألة السرقات العلمية، لكن هل هناك بالفعل دراسات عالمية أشارت إلى ترتيب الدول من حيث السرقات العلمية؟
السرقات العلمية موجودة في العالم كلّه
أستاذ علوم الكمبيوتر بجامعة نيويورك، الدكتور محمد زهران، قال إنّه لم يقرأ تصنيفاً دولياً من قبل حول مسألة السرقات العلمية يشير إلى تصدر مصر لتلك القائمة، موضحاً في تصريح لـ "حفريات":"صعوبة مثل ذلك التصنيف أنّه في الدول المتقدمة البحث يكتب عليه أكثر من اسم، لعدة جامعات، في دول مختلفة، فإذا اكتشفنا أنّ البحث مغشوش فلأيّ من تلك الدول تنسَب السرقة؟".
وأضاف زهران: السرقات العلمية موجودة ومنتشرة في العالم كلّه؛ لذلك أصبحت هناك أدوات تفحص البحث العلمي، وتقارنه بالأبحاث المنشورة فعلاً في الأعوام السابقة، وإذا وجد أكثر من عدد معين من السطور منقول يعتبر البحث مغشوشاً، مشيراً إلى حادثة عالم النفس الهولندي، ديدرك ستابل (Diederik Stapel)، من جامعة تيلبرج، والذي وُجد أنّ أغلب أبحاثه، على مدار عشرة أعوام، كانت مفبركة، وأنّ هذا لم يضرّه فقط، لكن ضرّ كثيراً ممن حصلوا على الدكتوراه تحت إشرافه.
يرى زهران أنّ السبب الأساسي لهذه الظاهرة، إضافة إلى الضعف الإنساني، الرغبة فى الترقي في السلك الأكاديمي، أو الفوز بجوائز علمية، والشهرة التي تأتي معها: "لكنّ ضرر هذه الظاهرة فادح؛ لأنّه يجعل الناس تشكّ في أيّ بحث علمي جديد، أو تجعل الناس تنخدع بأشباه العلماء، وفي كلتا الحالتين يفقد الناس الثقة في العلم والعلماء، وهذا ينذر بانهيار الأمم؛ لذلك أول خطوة على طريق الحلّ هي إنشاء نظام يقلل من احتمالات الغشّ، مثل برامج الكمبيوتر التي تكشف النقل، ومثل نظام محكم لتحكيم الأبحاث".
تقارير لا تستند إلى إحصائية فعلية
الكاتب والمترجم العلمي أحمد سمير سعد، قال في تصريح لـ "حفريات": "لا أظنّ أنّ تصريح مسؤولي البحث العلمي في مصر حول تصدّرنا لقائمة السرقات العلمية يستند إلى إحصائية فعلية، ربما هو تصريح بلاغي أو للاعتراف بحجم كبير للمشكلة؛ صحيح هو تصريح جاء من مسؤول، لكنّه لم يستند إلى تقرير إحصائية فعلي قامت به جهة فعلية، إنّ هذا النوع من الإحصاءات يتطلب حصراً واسعاً لكلّ هذه الحالات في الداخل المصري، وكذلك حصراً لكلّ الحالات في كلّ دول العالم، وبالتالي إجراء المقارنة بشكل علمي صحيح ومؤكد؛ بل إنّ هذه الإحصاءات تخضع في أحيان كثيرة لمعايير مختلفة تكون موضع انتقاد أحياناً واستحسان أحياناً أخرى، وتشكيك في أغلب الوقت، وهو ما يفسّر، ربما، لماذا تكون أغلب هذه الإحصاءات غير أكيدة أو محلّ تسليم عام، وتأتي متضاربة في كثير من الأحيان كذلك".
أول خطوة على طريق الحلّ هي إنشاء نظام يقلل من احتمالات الغشّ مثل برامج الكمبيوتر التي تكشف النقل
وأضاف سعد: "حالياً لا يتمّ نشر أيّ عمل علمي في أيّة مجلة محكمة دولية، ولها تصنيف، إلا بعد إجراء مراجعة على الورقة العلمية المقدمة من خلال برامج كشف الاقتباس، ويتم رفض العمل مباشرة إذا ما بلغت نسبة الاقتباس حداً معيناً يتمّ إقراره من قبل محرري المجلة العلمية، وهو حدّ أدنى مسموح به يحترم توارد الخواطر الذي قد يحدث أحياناً، لكنّه يجب أن يظلّ ضمن نسب محددة.
لا يقدّم أيّ باحث بحثه حالياً إلا بعد أن يجري هذا الاختبار بنفسه على ورقته البحثية أولاً، لأنّ رفض أيّة ورقة لتجاوزها نسبة الاقتباس يكون رفضاً قاطعاً لا يمكن ردّه، أو استئنافه، وحالياً تتيح جامعة القاهرة أحد هذه البرامج لكشف الاقتباس، هذه الآليات تقلل جداً من السرقات العلمية، لكنّها بالتأكيد قد لا تمنع سطو أحدهم على فكرة آخر قبل نشرها".