يثير وباء الكوليرا المنتشر بالجزائر، جدلاً اجتماعياً عارماً، ويربطه خبراء وناشطون بانتخابات الرئاسة المرتقبة ربيع العام القادم، لكن من تحدثوا لـ"حفريات" ينفون "قدرة" الوباء على إسقاط الحكومة رقم 21 منذ تولي الرئيس عبد العزيز بوتفليقة شؤون الحكم في ربيع العام 1999.
بلغة الأرقام، أشارت وزارة الصحة الجزائرية إلى 56 إصابة مؤكدة من بين 161 حالة استقبلتها مشافي شمال البلاد منذ الخميس الماضي عبر محافظات: البويرة، البليدة، تيبازة، بومرداس والجزائر العاصمة، بالتزامن، ظهرت 3 حالات جديدة في محافظتي باتنة (430 كلم شرقا) وتيارت (334 كلم غرباً).
وأظهرت بيانات وزارة المياه، سلامة 38 منبعاً محلياً، بيد أنّ وزير الصحة، مختار حسبلاوي، أقرّ بوجود بكتيريا على مستوى بعض المنابع، إلاّ أنّها لا ترقى بحسبه إلى مستوى البكتيريا المسبّبة للكوليرا على مستوى منبع سيدي الكبير بضاحية "حمر العين" (90 كلم غرب العاصمة).
تضارب
المتحدثة باسم وزارة المياه، نصيرة مدبدب، ذكرت أنّ جميع المنابع المتصلة بالشبكة المحلية للماء الشروب، مؤمّنة، و"ليس هناك أية شكوك في سلامة مياه المنابع التي نستغلها، والمرتبطة بشبكة الماء الشروب".
وفي تصريح لـ "حفريات"، لاحظت مدبدب، أنّ المشكلة تكمن في آلاف المنابع الصغيرة غير الخاضعة للاستغلال، على منوال منبع "سيدي الكبير"، رافضةً الخوض في ربط البعض بين ظهور الكوليرا مع انتهاء عقد استغلال إحدى الشركات الفرنسية.
خبير لـ "حفريات": الكوليرا تعكس حالة لا مبالاة ولا اهتمام بصحة المواطنين مع أنّ الموقف يتطلب صرامة ومتابعة دقيقة
ويشدّد فريق من الشارع المحلي على أنّ سبب الكوليرا راجع إلى ظاهرة سقي المحاصيل الزراعية بالمياه القذرة، فيما يحمّل آخرون المسؤولية لمواطنيهم الذين استهلكوا مياهاً غير سليمة.
وتعهّد وزير الصحة بإنهاء الكوليرا في أجل أقصاه 72 ساعة، داعياً مواطنيه إلى التحلي بالوعي وتجنّب الشرب من المنابع في الوقت الراهن إلى غاية التأكد من سلامتها، مطمئناً بشأن سلامة مياه الحنفيات.
وبجانب نفي وزير الصحة، أي تقصير لمصالحه في قضية الكوليرا، ذكر وزير الزراعة، عبد القادر بوعزقي، أنّ كل الخضر والفواكه سليمة وصالحة للاستهلاك، ونفى بشكل مطلق صحة أنباء تحدثت عن "تلويث مياه السقي ببكتيريا مسبّبة للكوليرا"، موضحّاً أنّ الظاهرة معزولة، وعلى المتعاملين اتباع معايير النظافة قبل وأثناء عرض المنتجات، وتوعدّ بمقاضاة المخالفين.
وأتت تصريحات وزير الزراعة إثر أنباء عن سقي الفواكه الموسمية بالمياه القذرة، وهو ما أفرز لغطاً عارماً.
وقبل 8 أيام عن التحاق ما يربو عن 8.5 ملايين تلميذ بمدارس البلاد، استبعدت وزيرة التربية نورية بن غبريت رمعون، أي تأجيل للموسم الدراسي بسبب تفشي وباء الكوليرا، معلنةً عن تدابير وقائية استثنائية في سائر محافظات البلاد.
فوضى يتحملها الجميع
يرى الخبير السياسي هيثم رباني، في تصريح لـ"حفريات" أنّ ظهور الكوليرا سببه فوضى العمران، فعندما يبني الناس سكنات جديدة من دون رخص بناء على أطراف المدن أو برخص بناء، ثم لا يتمّ التنسيق مع السلطات، فهذا يعني رمياً لمياه الصرف الصحي غير بعيد عن مقر السكنى الأقرب إلى منبع أو أنبوب ماء موجود تابع للبلدية.
وهذا يعني، بحسب رباني، مصدراً واضحاً للأمراض المتنقلة بالمياه، ومنها الكوليرا، محمّلاً المسؤولية للجميع مواطنين وبلديات إلى غاية قمة الدولة، وعقّب: "كفانا أحياء عشوائية وهذه هي النتيجة".
أما السبب الثاني في نظر، رباني، فهو التقاء مياه الصرف الصحي التي لم تتكفل بها مصالح تنقية المياه، بأراضٍ زراعية، فهي إما تُرمى في الأراضي الزراعية من دون موافقة المزارعين الذين بلغت شكاواهم بالعشرات تسمع أحياناً وأحياناً لا، وإما يعمد من ينعتهم "المزارعون الغشاشون" إلى "استعمال مياه الصرف، ما يعني كوليرا في الخضار والفواكه".
أزمة مفتعلة والحلّ بعد 10 أيام
في تقدير رباني، فإنّ هالة التضخيم التي أفرزتها الكوليرا، سببها وسائل التواصل الاجتماعي، وإلاّ فإنّ الدولة قادرة على حل الإشكال في أسبوع، وبطبيعة الحال فإنه وعلى فرض عدم وجود مؤامرة للفت الأنظار عن قضايا أهم، فإنّ الفيسبوك وزملاءه يحولون أي قضية إلى أزمة دولة، وهذا من عيوب هذه الوسائط لأنّها عوضت الأسواق والمقاهي والمواخير في جلبتها وسقط كلامها وحشرته مع المنطق والأفكار السليمة، لذلك فبعد خصم التهويل الفيسبوكي وأشباهه، يمكن القول إنّ عطلة العيد والتقاءها بعطلة نهاية الأسبوع وعطل نهاية السنة، أخّر ردّ فعل السلطات التي يظهر أنها أخذت الأمر على محمل الجد وسيحلّ الإشكال بعد عشرة أيام على الأكثر.
الكوليرا مؤشر على احتدام الصراعات بين متنفذين قبيل أشهر على انتخابات الرئاسة المرتقبة في نيسان (أبريل) 2019
وعما إذا كانت الكوليرا محض "سيناريو للإلهاء" على حد تأويل طائفة من المتابعين، ينفي، رباني، الأمر رأساً، قائلاً لـ "حفريات": "لا يمكن للكوليرا أن تُنسي الشعب مشاكله الاقتصادية، بل قد تزيد البعض غضباً، لذلك لا أظن أنّ هناك مؤامرة غايتها التلهية، بل بالعكس، لا بدّ من الهدوء وضبط الأمن خلال الأزمات خاصة في الوقت الحالي المليء بالتحديات الاقتصادية والاجتماعية".
وإزاء تداعيات الكوليرا اجتماعياً وسياسياً على المشهد الجزائري العام، يرى، رباني، أنّ الجزائر لا تعيش حالة وباء شامل بل حالات معزولة بسبب الفوضى وعدم الالتزام بأبجديات النظافة، وحلّ الإشكال بسيط والدولة بإمكانها القضاء على كل مظاهر الفوضى لو تقرّر تنسيق جهود كل السلطات المحلية، وتوفير الإمكانات المادية والقانونية وصلاحيات الجهات البيئية والأمنية والعقارية في التدخل وهدم الأحياء الفوضوية، الإجراءات معقدة والقضايا في المحاكم لا تطبّق رغم صدور الأحكام لأسباب تافهة ولاستعمال المتقاضين حيلاً لا تحصى، لكن النتيجة هي ما نرى الآن، ظهور الكوليرا.
اقرأ أيضاً: فتكت بالملايين وأبادت شعوباً.. أخطر الأوبئة عبر التاريخ
وينتهي، رباني، إلى أنّه "من الناحية السياسية لن تكون هناك متابعات، بقدر ما سيُحاسب رؤساء بلديات أو ولاة أو مديريات بيئة لا أكثر ولا أقل".
ضعف خطاب وهشاشة منظومة
يؤكد أخصائي الصیدلة وخبير التسيير والسياسات الصحية، د. محمد العربي توراب، لـ"حفريات"، أنّه لا يمكن حصر الكوليرا في منبع واحد، معتبراً أنّ الغلطة الأولى هي "حصر الكوليرا في منبع واحد".
وبجانب إحالته على حتمية توسيع التحقيقات بطريقة ناجعة، لفت توراب، إلى أنّ الكوليرا مرض ينتقل عبر الجهاز الهضمي، وحتى وإن لم ينتقل عن طريق المياه، فإنّه ينتقل بواسطة الأشخاص.
وعارض خبير السياسات الصحية أسلوب التهويل والتخويف، داعياً للتركيز على التوعية والتحسيس. وخلافاً لجزم وزير الصحة بالقضاء على الوباء في 3 أيام، شدد توراب على استحالة ذلك في 3 أيام أو أسبوع، واستغرب "إنهاء الكوليرا في 3 أيام" قائلاً "هذا خطاب ضعيف جداً ... ماذا لو ظهرت أي حالة بعدها؟".
وخلص توراب إلى انتقاد هشاشة المنظومة الصحية في الجزائر، ورأى أنّ أول حل هو الاعتراف بوجودها، مذكّرا أنّ قانون الصحة الذي جرى تزكيته في الربيع الماضي، صودق عليه بسرعة كبيرة، مع أنّ القطاع يحتاج إلى إصلاحات كبيرة تقتضي مزيداً من التعمق.
الوباء لن يُسقط الحكومة!
يسجّل رئيس الهيئة الجزائرية لترقية الصحة وتطوير البحث، مصطفى خياطي، أنّ بلاده تشكو تقهقراً وهشاشةً في عدة ميادين وليس الصحة فحسب.
وأردف، خياطي لـ"حفريات": "الأمر أخطر، ركائز ومقومات منظومة الحكم أصيبت، وعودة الكوليرا عرّت الهشاشة".
اقرأ أيضاً: تطوّرات "الكوليرا" بالجزائر...وكيف تتعامل دول الجوار مع الوباء؟
وواصل خياطي: "لدينا قدرة للتحكم في وضع ليس بالخطير، لكن ذلك يفرض قطع مصادر وذاك يقتضي أسابيع، كما أنّ الأمر مرهون بتبني إستراتيجية جديدة تقضي على فوضى العمران والسقي".
وبدا، خياطي واثقاً من أنّ الأمور ستتحسن مع حلول فصل الخريف، لكنّه استبعد تسبّب الكوليرا في إسقاط الحكومة، وأبرز أنّ الكوليرا عرّت سوء التواصل الرسمي وكل الوزارات، مستهجناً مماطلة الحكومة في ممارسة الاتصال إلى ما بعد سقوط ضحايا واصابات، ما أفرز حالة لا ثقة.
صراعات بتوابل "رئاسية"
يتفق رئيس حزب الجبهة الوطنية الجزائرية موسى تواتي، مع المحلّل السياسي، جمال زروق، في اعتبار الكوليرا مؤشراً على احتدام الصراعات بين متنفذين، قبيل أشهر على انتخابات الرئاسة المرتقبة في نيسان (أبريل) 2019.
ويؤكد زروق لـ "حفريات" أنّ "الكوليرا أخذت أكثر من حجمها، ومن افتعل ذلك ليس أتباع الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، بل أحد أجنحة السلطة، طالما أنّ أتباع بوتفليقة لا تخدمهم قلاقل قد تضرّ بتوجهات 23 مليون ناخب بعد 7 أشهر من الآن".
بدوره، يشير تواتي لـ "حفريات" إلى أنّ الكوليرا تعكس حالة "لا مبالاة ولا اهتمام بصحة مواطنيه"، مع أنّ الموقف يتطلب صرامة ومتابعة دقيقة، مستطرداً: "هذا الوباء عيب في بلد بوزن الجزائر، فكيف لنا أن نجترّ مرض القرون الوسطى، بكل ما يعنيه ذلك من إهانة لصورة الجزائر".
ويلاحظ، زروق، أنّ حكومة بلاده أثبتت عجزها، خلافاً لما حصل عام 1965، حيث اجتاحت الكوليرا الجزائر آنذاك، فجرى تلقيح الشعب بكامله رغم أنّ عمر الدولة آنذاك كان 3 سنوات، على نقيض راهن لا يخدم السلطة ولا الشعب.