جلس القاضي حافظ سابق، رئيس محكمة القاهرة الابتدائية في مصر، على المنصة، لينطق بالحكم النهائي في قضية محاكمة كتاب "من هنا نبدأ"، لـ خالد محمد خالد، يوم 27 أيار (مايو) 1950، وجاء قرار المحكمة بإلغاء مصادرة الكتاب، والإفراج عنه للجمهور، عملاً بحرية الرأي المكفولة في القانون.
كان اسم الكتاب "بلاد من؟"، لكن الكاتب غيّره إلى "من هنا نبدأ" بعد أن أفرجت الرقابة عنه
لطالما استُخدمت قصة القاضي المستنير، حافظ سابق، للاستدلال على الحقبة التنويرية والثقافة الدينية الوسطية المتسامحة، التي عاشتها مصر قبل انتشار موجات السلفية المعاصرة، بدءاً من سبعينيات القرن الماضي.
وبالفعل شهدت مصر مظاهر للتنوع العقائدي أو الثقافي، لكن تعميم بعض مظاهر الحداثة على السيكولوجية العامة للجماهير، يعدّ اجتزاءً للتاريخ، ولعلّ القصة الكاملة لمحاكمة كتاب "من هنا نبدأ" تحمل في طياتها قراءة مختلفة بعض الشيء، ولا يمكن اختزالها في الحكم النهائي، فمثول الكتاب للمحاكمة في حدّ ذاته دلالة على الحجر لا الحرية.
اقرأ أيضاً: هل يحتاج التيار التنويري إلى وقفة نقد ذاتي جريئة؟
غلاف كتاب "من هنا نبدأ" يحمل اسم الكاتب خالد محمد خالد، مُتبوعاً بتعريفه بـ"واحد من العلماء"، كونه قد نال شهادة العالمية في دراسة الشريعة الإسلامية من الأزهر، العام 1945، أما عن الاسم الأصلي للكتاب؛ فهو "بلاد من؟"، لكن الكاتب قام بتغيير اسم كتابه إلى "من هنا نبدأ"؛ بعد أن أفرجت الرقابة عنه، وقد وردت واقعة تغيير اسم الكتاب على لسان المؤلف في مقدمة الطبعة الثانية، الصادرة عن دار النيل، العام 1950.
اقتباسات من الفلسفة الغربية
يقول المؤلف: إنّ "أيسر الطرق للحضارة هو الانفتاح الفكري"، ويتجلى عبر الكتاب مدى تأثره بالفلسفة الغربية، سيما فلسفة عصر التنوير في أوروبا، فيستشهد في مقدمة كتابه بفلسفة الولاء للإنسانية التي صاغها الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو، كما اقتبس مقولة للفيلسوف الفرنسي فولتير، المدافع عن حرية العقيدة والحقوق المدنية، التي قال فيها: إنّ "الذي يقول لك اعتقد ما أعتقده، وإلا لعنك الله، لا يلبث أن يقول لك اعتقد ما أعتقده وإلا قتلتك".
اقرأ أيضاً: الإعلام والتنوير وبناء البشر
أما المفكر الأمريكي، توماس بين؛ فقد اقتبس منه الشيخ خالد محمد خالد مقولته عن العدالة الاجتماعية، التي قال فيها: "إنّ الفقر ليتحدى كلّ فضيلة وسلام؛ لأنه يورث صاحبه درجة من التذمر تكتسح أمامها كلّ شيء".
الدين والفقر والمرأة
هناك ثلاثة محاور رئيسة يمكن رصدها في كتاب "من هنا نبدأ"، وهي: الدولة الدينية، الفقر وقضية العدالة الاجتماعية، وأخيراً التمكين السياسي للنساء.
يتجلى عبر الكتاب مدى تأثره بالفلسفة الغربية سيما فلاسفة عصر التنوير كفولتير وروسو
المحور الأول: يتجلى هذا المحور من خلال فصلين؛ فصل بعنوان "الدين لا الكهانة"، والآخر بعنوان "قومية الحكم"، ولا شك في أنّ المؤلف فتح على نفسه النيران الصديقة حين شبّه احتكار المشايخ لتفسير الدين الإسلام بالكهانة، لكن يبدو أنّ قلمه كان يخضع للرقابة الذاتية، فلم يرد على لسانه لفظ الكهانة الإسلامية، وإنما أسماها الكهانة المصرية؛ حيث انتقد خطاب المشايخ الذين دعوا العامة إلى الرضوخ للفقر بحجة الزهد والقناعة، وانتقد المشايخ الذين تمسكوا بجمود التفسيرات فأصبحوا سجناء الماضي (ص 36، 37).
أما في فصل "قومية الحكم"؛ فيذهب الشيخ خالد إلى خطورة العلاقة بين الدين والدولة، فيتساءل: أنمزج الدين بالدولة؟ فنفقد الدين ونفقد الدولة؟ أم يعمل كل منهما في ميدانه فنربحهما معاً، ونربح أنفسنا ومستقبلنا؟"(ص 147)، ورأى أنّ "الحكومة الدينية تمنح نفسها قداسة زائفة"(ص 172).
اقرأ أيضاً: تجليات النقد والتنوير عند طه حسين
المحور الثاني: تناول المؤلف الفقر وإشكالية العدالة الاجتماعية، في فصل بعنوان "الخبز هو السلام"، وقام من خلاله بنقد النظام الإقطاعي الذي يستغل العمالة، في منظومة مجحفة أسماها منظومة "رقيق الأرض"(ص 125).
المحور الثالث: تبنّى خالد محمد، مؤلف كتاب "من هنا نبدأ"، قضية حقوق المرأة السياسية، ووصف غياب النساء عن البرلمان بـ "الرئة المعطلة"، وفي وصف آخر قال: إنّ "الأمر أشبه بالتحرش بحقوق النساء"(184 - 188).
اقرأ أيضاً: التنوير بين مطرقة التسطيح وسندان الهمجي النبيل
هكذا انتقد خالد محمد منظومة الدين والاقتصاد والتمييز ضدّ النساء في مطلع خمسينيات القرن الماضي، فتعرض كتابه للمصادرة، واستمعت النيابة إلى أقواله، ثم وجهت إليه ثلاثة اتهامات، ألا وهي:
التعدي على الدين الإسلامي، التحريض على تغيير النظام الاجتماعي، وازدراء الرأسمالية مما يكدّر السلم العام.
كيف أفصح الكتاب عن القراءة المجتزأة للتاريخ؟
منطوق الحكم الذي قام بتبرئة خالد محمد، اعتمد على تبرئته أولاً من تهمة الاعتداء على الدين، واستند القاضي إلى الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي استشهد بها المؤلف في كتابه؛ أي أنّه في حالة خلوّ المادة من دعم فقهيّ، لوجد المؤلف نفسه في مواجهة قانون العقوبات.
نال خالد محمد البراءة في حكم تاريخي، غلبت على مفرداته روح العدالة، خاصة فيما يخص مبدأ العدالة الاجتماعية في مواجهة النظام الإقطاعي، ورغم أنّ منطوق الحكم يعدّ انتصاراً لحرية الرأي، إلا أنّ دراسة جوانب القضية برمتها قد تثبت فساد الروايات التي تصنع من الماضي صورة مثالية.
نقد المؤلف النظام الإقطاعي الملكي الذي يستغل العمالة في منظومة مجحفة أسماها منظومة "رقيق الأرض"
إنّ قصة مصادرة ومحاكمة كتاب "من هنا نبدأ" تخالف بعض التصورات، التي رأت أنّ العهد الملكي في مصر كان خالياً من قانون يفتش في العقيدة الدينية للمواطنين، وفي حقيقة الأمر؛ إنّ التهمة التي وجِّهت لمؤلف الكتاب تمت بمقتضى المادتين (161 و171) من قانون العقوبات؛ أي إنّ هذه النوعية من الاتهامات كانت عاملاً مشتركاً في قانون العقوبات المصري، في كلّ من العصر الملكي والعصر الجمهوري.
كما أنّ تفاصيل المحاكمة تنفي الروايات المغلوطة، التي تروى عن استقلالية السلطة المدنية عن السلطة الدينية المتمثلة في الأزهر في عهد الملكية، والحقيقة أنّ النيابة استندت في توجيه تهمة الاعتداء على الدين الإسلامي إلى رأي لجنة الفتوى في الأزهر، التي انتهت في تقريرها إلى تعمد الكاتب هدم الدين الإسلامي، وقالت اللجنة نصاً: "الكتاب يسعى لسلب الدين أهم وظائفه وهي الهيمنة على شؤون الحياة".
اقرأ أيضاً: الدين والتنوير العقلاني والسياسي
وهنا يتبادر إلى الذهن تساؤل مهمّ، حول المؤلف خالد محمد خالد، وهو دارس للشريعة في الأزهر؛ ألا تُعدّ أفكاره التحررية دليلاً على ثقافة تنويرية في زمانها؟ بكلّ تأكيد هي كذلك، لكنّها أيضاً الأفكار نفسها التي أدانها الأزهر؛ لذا فإنّ الأفكار التنويرية الحداثية لم تكن بالضرورة هي الشائعة، لكنّها كانت متواجدة ومجتهدة، وسط بيئة أصولية.
أما اتهام مؤلف كتاب "من هنا نبدأ"؛ بأنه "يزدري الرأسمالية، ويكدر السلم العام"، فجاء بمقتضى المادة (176) من قانون العقوبات، وهذا الاتهام ينفي الصورة الذهنية بأنّ الاقتصاد الحرّ كان قائماً على الفكر الليبرالي الحرّ؛ لأنّ الليبرالية لا تتهم المختلف معها في الرؤية الاقتصادية بتكدير السلم العام، أو بازدراء الرأسمالية؛ فالاتهام بازدراء الرأسمالية في العهد الملكي لا يختلف عن الاتهامات التي وجهتها منظومة الحكم في العهد الناصري، فيما بعد، لمن ارتفع صوته معترضاً على الخطاب والتوجه الاشتراكي.
إنّ التمعن في تفاصيل محاكمة كتاب "من هنا نبدأ"، العام 1950، من الأمثلة التي تكشف لنا أنّ القراءة الجزئية لبعض العناصر التاريخية دون غيرها، أو خارج سياقها، قد يؤدي إلى تصورات مبتورة.