ينظر أصحاب التوجّهات الإسلامية إلى تطبيق الحدود، على أنّه مسألة مصيرية، تتعلق بطبيعة المجتمع المسلم، والواقع؛ وهو ما لا يسمح التيار التقليدي بالأزهر الشريف بمجرّد نقاشه، إلا أنّ تيار التجديد في هذه المؤسسة الدينية العريقة، الذي أرسى دعائمه الإمام محمد عبده، كان يرى أنّ التقدّم الذي يحدث في العالم، في كافة المجالات، إن لم يسايره اجتهاد فقهي موازٍ، يراعي تقدّم المجتمع؛ فإنّ هذا سيؤدي إلى تراجع سلطة الدين على عقول وقلوب الناس.
تدرّج الحدود غايته العدل
ومن هذا المنطلق؛ فإنّ الشيخ عبد المتعال الصعيدي، أحد المجددين، قدّم العام 1937 على صفحات مجلة السياسة، اجتهاداً مميزاً في مسألة الحدود؛ ففي معرض قراءته للنصوص الواردة في القرآن حول السرقة والزنا، مثل: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }، {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍۖ}، يرى الصعيدي أنّ الأمر الوارد في الآيتين: (فاقطعوا )، (فاجلدوا)، هو للإباحة، وليس للوجوب، كما يعتقد معظم المشايخ، ولا ينبغي أن يكون القطع حدّاً مفروضاً وحده؛ بحيث يجوز العدول عنه في جميع حالات السرقة، وفي كلّ الظروف، وكلّ الأحوال التي تتغير بتغير الزمان والمكان؛ بل يكون القطع في السرقة أقصى عقوبة فيها، ويجوز العدول عنه في بعض الحالات إلى عقوبات رادعة أخرى، ويكون الأمر كلّه، شأنه شأن كلّ المباحات، التي تخضع لتصرفات وليّ الأمر.
محمد عبده كان يرى أنّه ما لم يساير الفقه التقدّم فسيؤدي ذلك لتراجع سلطة الدين على العقول والقلوب
ويرى الصعيدي أنّه ليس من العدل أن نساوي بين مَن سرق سرقة صغيرة، ومن سرق سرقة كبيرة، وبين من فعلها مرة واحدة، ومن أقدم على ذلك باستمرار؛ فاتساع دائرة العقاب حول السرقة أفضل للإسلام والشريعة من الوقوف عند حدود ظاهر النصّ، والقول إنّها عقوبة واحدة على الجميع.
والأمر كذلك في حدّ الزنا، وفق الشيخ الصعيدي، سواء كان رجماً أو جلداً، وذلك لأنّ الرجم لم يرد في القرآن، وأنّ الخوارج قد أنكرت رجم الزاني، ويرى الشيخ الصعيدي؛ أنّ القصاص في القتل، وهو أعلى من حدود السرقة والزنا، كانت الشريعة والاجتهاد فيه أكثر ملاءمة؛ حين وضعت الدية حقاً لأهل المقتول في رقبة القاتل، يمكن أن يدفعها القاتل ثمناً لرقبته، وأنّ جزاء حدّ الحرابة كان ثلاث عقوبات متنوعة.
محاكم التفتيش تحاصر محاولة التجديد
هذا، وقد هاجم الشيخُ محمد الخضر حسين (التونسي)، شيخ الأزهر آنذاك، الشيخ الصعيدي متهماً إياه بأنّه يلغي وجوب هذه الحدود، ويجعلها من المباحات التي تخضع لتقدير وليّ الأمر، وفي هذا يكون قد تساهل في أمر الدين، وأنّ "آيات الحدود منذ عهد النبوة محفوظة من عبث المؤوّلين، ولا يختلف العلماء في أنّ الأمر فيها للوجوب، وأنّ من أضاعها وهو قادر على إقامتها، فهو فاسق أو جاحد".
يرى الصعيدي أنّ الأمر القرآني بالقطع والجلد هو للإباحة وليس للوجوب كما يعتقد معظم المشايخ
لم يقتصر الرد بطبيعة الحال على شيخ الأزهر، فقد رأى الواعظ، بشبين الكوم، محمد إسماعيل، أنّ الشيخ الصعيدي "فتح باباً للتلاعب بأوامر الله في حدوده، ويتبعه التلاعب في جميع الأوامر والنواهي، فتكون الشريعة الإسلامية مهزلة لشهوات المخرفين".
فيما ذهب، المدرّس بمعهد الزقازيق الأزهري، الشيخ رمضان الجداوي، إلى أنّ الاجتهاد في فقه الحدود يجب أن يكون لتأييد الشريعة وليس لمجاراة العصر، "ولو صحّ هذا لوجب أن نترك الصلاة مجاراة لروح العصر، وكلام الصعيدي هذا يجعلنا نمقت التجديد الخبيث، الذي نشمّ منه رائحة إهمال حكم مقرر، أو ترك سنّة ثابتة، أو الخروج على إجماع معروف".
وتحت هذه الضغوط، ردّ عليهم الشيخ الصعيدي أنّه لم يهمل عقوبة القطع للسارق، لكنّها أقصى عقوبة، وإنّه يمكن العدول عنها في بعض حالات السرقة؛ "لأننا لا يمكن أن نساوي بين جميع حالات السرقة، والمعروف أنّ العلماء قد اختلفوا على أقوال كثيرة، وكذلك اختلفوا في مكان السرقة، وفي المسروق منه".
اقرأ أيضاً: مذكرات محمد عبده.. كيف ودّع رائد التنوير كراهية العلم؟
ولم يسلم الشيخ الصعيدي برأيه هذا من اضطهاد شيوخ الأزهر له؛ فقد عقدت له محاكمة من كبار العلماء؛ من الشيخ عبد المجيد اللبان، والشيخ محمد مأمون الشناوي، برئاسة الشيخ محمد عبد اللطيف الفحام؛ حيث كفّر الشيخ اللبان الشيخ الصعيدي، وطلب أن يُستتاب كما يُستتاب المرتد، ورأى الشيخ الفحام أنّه لا يستحق هذه العقوبة، وأنّه أراد التخفيف على الناس، ورأى الشيخ الشناوي أن يُنقل من كونه مدرساً بكلية اللغة العربية، إلى قسم المعاهد الأزهرية بطنطا، ووقف ترقيته لمدة خمسة أعوام.
اتساع دائرة العقاب برأي الصعيدي حول السرقة والزنا أفضل للإسلام والشريعة من الوقوف عند حدود ظاهر النصّ
ويعترف الشيخ الصعيدي، بأنّ الشيخ محمود شلتوت كان وراء تخفيف أمر العقوبة عليه، كذلك كانت هناك مساندة من شيخ الأزهر في تلك الفترة، الشيخ محمد مصطفى المراغي، وإن كانت مساندة مستترة؛ خشية من سطوة الرجعيين داخل الأزهر الشريف، وبعد مرور ثلاثة عقود، العام 1964، خفتت سطوة الجامدين على الأزهر الشريف، وأعاد الشيخ الصعيدي نشر رأيه حول مسألة الحدود، في أكثر من كتاب له، إيماناً منه بأنّ تياراً ينبغي أن ييسّر على الناس، وأن يقدم الإسلام بصورة مرنة توافق روح العصر، لكن هذا الكتب ما تزال حبيسة الأدراج في مكتبة الأزهر الشريف، ولم تنشر حتى الآن.
وفي نهاية كتابه المخطوط "في الحدود في الإسلام"، يقول الصعيدي: إنّ الحدود لم تكن موجودة بين جمهور المسلمين، منذ عهد محمد الفاتح 855هـ، إلى هذا العهد، الذي تأثر فيه المسلمون بالقوانين الأوروبية الوضعية، فقد كان من أهم أعماله ترتيب وظائف القضاء من أكبر إلى أصغر وظيفة، ووضع أول مبادئ القانون المدني، وقد أبطل فيه العقوبات المدنية، ووضع بدل ذلك عقوبات وغرامات مالية بكيفية واضحة، وقد جاء السلطان سليمان القانوني (926هـ)،ـ بعد السلطان محمد الفاتح، وأتمّ ما بدأه، ووضع قانونه المشهور، بمساعدة المفتي "أبو السعود"، واستمرّ في العمل على هذا من ذلك العهد في بلاد الدولة العثمانية، وهي الدولة التي كان يتبعها جماهير المسلمين، في آسيا وإفريقيا وأوروبا، وكان المسلمون يخطبون لها على منابرهم، ويطلبون لسلاطينها النصر على أعدائهم، ويدعون بحفظ ملكهم وسلطانهم.
اقرأ أيضاً: حبيب جرجس: نظير محمد عبده في المسيحية المصرية