في العام 1947؛ ثارت قضية "الفنّ القصصي في القرآن الكريم"، وهو عنوان رسالة جامعية لمحمد أحمد خلف الله (طُبعت لاحقاً ككتاب) رفضت جامعة القاهرة مناقشتها وأثارت حولها ضجة سياسية وقضائية ودينية كبيرة، فما كان من أستاذه، الشيخ أمين الخولي، إلا أن سانده، مؤكداً أنّ: "الحديث عن رسالة الطالب بهذه الصورة هو إنكار للحق الطبيعي للحيّ بأن يفكّر ويقول، وإنّه لحق عرفنا أن الإسلام يقرره ويحميه".
اختطّ علي مبروك مساراً مغايراً لأستاذه حسن حنفي مركزاً على التحليل المعرفي لمشكلات التراث
لكن علي مبروك (1958 - 2016) لم يحظ من أستاذه حسن حنفي بهذا التأييد، رغم أنّه كان في بداية حياته الفكرية متأثراً بأفكاره، بعد أنّ وعى أنّ مشروع أستاذه العلمي قد سقط في أحابيل الأيديولوجيا، فاختلط عنده الفكري بالسياسي، وغرق المعرفي لديه في أحلام الأيديولوجيا، ولذا فقد اختطّ التلميذ مساراً مغايراً لأستاذه، مركزاً على التحليل المعرفي لمشكلات التراث، مقلصاً لحضور الأيديولوجيّ داخل رؤاه الفكرية، وامتلك ناصية المنهج العلمي؛ بتوظيف المناهج الحديثة في دراساته عن التراث العربي، فوظف البنيوية والماركسية والتأويلية في مجالات علم الكلام وأصول الفقه وعلوم القرآن؛ لذلك بدا علي مبروك كالابن العاق، من وجهة نظر حسن حنفي، أو التلميذ الذي ضلّ الطريق، وليس ذلك سوى لأنّه اختطّ لنفسه طريقاً مغايراً له، ولذا فلم يدعه أستاذه في حاله، حتى بعد وفاته؛ حيث طعن في سيرته العلمية، متهماً إياه بأنّه كان ينتحل أفكاره، وبأنه كان مستعجلاً للشهرة.
الإسلام ليس مجرد عقيدة دينية
لعلّ أهم ما يميز رؤية علي مبروك الفكرية؛ مركزية السياسي، وفاعليته في تشكلات التاريخ الثقافي الإسلامي؛ فنظر إلى الإسلام كعقيدة وسياسة، وليس مجرد عقيدة دينية؛ حيث عمد في أطروحاته إلى بيان أثر السلطة السياسية في تجليات الوحي عبر حركة التاريخ؛ ليكشف، وبقوة، أثر الزمني في تطور الروحي، وأثر الاجتماعي والتاريخي في تشكيل المواقف العقائدية المختلفة للفرق الإسلامية، فخطاب علم الكلام وعلم العقيدة هو خطاب في الديني بكلام سياسي، ومن ثم فقد اتجه مبروك لإعادة قراءة علم العقائد باعتبار أنّ الخلاف في العقائدي هو انعكاس للخلاف حول السياسي.
اقرأ أيضاً: إشكاليات منهجية في قراءة طه عبد الرحمن للتراث
ومن هذا المنطلق؛ قدم مبروك قراءة للخطاب الأشعري تربط بين الأنطولوجي والثيولوجي والسياسي، فيقول إنّ الخطاب الأشعري يوجد فيه تماثل شبه كامل بين المطلق الإلهي والمطلق السياسي، والذي ينطلق من مقولة معاوية بأنّه أول الملوك، قد راحت تضيف لنفسها القدرة على أن تقرر مصائر الناس، ارتفاعاً أو اتضاعاً، وذلك في مقابل ما اختص الله تعالى به نفسه من ابتدار الناس بالعزّ والذلّ، ولقد بلغ هذا التماثل الذي تزخر به المصنفات الأشعرية حدّ أن بدا أنّ المطلق السياسي يكاد يستحيل إلى أصل يقاس عليه المطلق الإلهي، وذلك بحسب ما يفهم من عبارة الغزالي، ذات الدلالة القصوى في هذا السياق (من أنّ الحضرة الإلهية لا تفهم إلا بالتمثيل إلى الحضرة السلطانية)، أو بحسب ما قال الرازي من قياس الصفات الإلهية على الصفات السلطانية.
القرآن من أجل الإنسان لا من أجل السلطان
وفي الفترة الأخيرة من حياته؛ انتقل علي مبروك، بمشاركة مع نصر أبو زيد قبل رحيله، من الاهتمام بعِلمَي أصول الدين وأصول الفقه، إلى الاهتمام بعلوم القرآن الكريم، ليقدّم لنا رؤى كاشفة عن ضرورة رؤية النصّ القرآني في ضوء تطور الواقع الاجتماعي والسياسي، ناقداً ما تمّ من توظيف السياسي أو السلطان للقرآن الكريم، فيرى علي مبروك أنّ "عملية التقنع الصريح بالقرآن الكريم هي التي ستقف وراء تبلور المأثور القائل: "إنّ الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، فإذا تكشف مفردات "الوازع" و"السلطان" المستخدمة في المأثور، تبلوره المتأخر في حقبة شاع فيها استخدام تلك المفردات؛ فإنّ ذلك يسند الدعوى القائلة إنّ "أطلقة" القرآن كانت قناعاً يراد منه "أطلقة" السلطان، فإذا المأثور لا يستحضر من السلطان إلا أن يكون أداة الله تعالى في الحكم، وهذا هو معنى الوازع، فيما لم يرد فيه حكم القرآن الكريم، فإنّ هذا ما يقطع بأنّ الأمر يتعلق ببناء السلطة على النحو الذى تكون فيه متعالية ومطلقة، وأعني من حيث المخايلة بأنّ السلطة هي سلطة الله، التي يكون فيها السلطان هو محض الوازع، أو الأداة التي يحقق بها الله ما لم ينطق به "وازع" القرآن".
قدّم علي مبروك رؤى كاشفة عن ضرورة رؤية النصّ القرآني في ضوء تطور الواقع الاجتماعي والسياسي
ويرى مبروك أنّ القرآن الكريم نزل من أجل الإنسان، وليس من أجل توظيف السلطان له، وذلك لأنّ المصلحة هي من المبادئ التأسيسية في القرآن الكريم، ومن الضروري ربط صلاح الحكم بالوقت، وهو ما أكّده الفخر الرازي في الفرار من نسبة النقص إلى الله تعالى: فإنّه إن قيل لو كان الحكم الثاني الناسخ أصلح من الحكم الأول لكان الأول ناقص الصلاح، فكيف أمر الله به؟ قلنا الأول أصلح من الثاني في الوقت الأول والثاني، بالعكس؛ فالصلاح هنا هو المبدأ التأسيسي، وأما الحكم الذي يتحقق من خلاله الصلاح فهو الحد الإجرائي، وبحسب تقرير الرازي؛ فإنّ الحكم، أو الحدّ الإجرائي المحقق للصلاح، قد يتحول في وقت غير وقته إلى عائق يمتنع معه تحقيق الصلاح، فيلزم رفعه بالنسخ.
اقرأ أيضاً: كيف قرأ زكي نجيب محمود التراث وما أبرز التحولات الفكرية لديه؟
وينادي علي مبروك بضرورة الفصل بين المبادئ التأسيسية في القرآن الكريم والحدود الإجرائية، ويرى أنّ الجيل الأول من المسلمين رفعوا الأحكام حين أدركوا حائلاً يمنع من تحقيق الصلاح، وكان ذلك استناداً إلى وعيهم العميق بالمنطق الذي يحكم علاقة كلّ مِن الوحي والعقل والواقع، وهو ما جرى بخصوص الأحكام المتعلقة بسهم المؤلفة قلوبهم، وتوزيع الغنائم على الجند الفاتحين، والحدّ المفروض على شارب الخمر، وغيرها مما أدرك الصحابة أن صلاحه مرتبط بوقت تنزيله، وأنّ شروط صلاحه قد ارتفعت، ولم تعد قائمة.
ويمكن الإشارة، وفق مبروك، ضمن نفس السياق، إلى أنّ التاريخ اللاحق سوف يرفع كلّ الأحكام المتعلقة بفقه الرقّ في الإسلام، بعد أن رفع شروط وجودها بالكلية، ورغم ما قد يتصوره البعض من أنّ التاريخ هكذا ينقض القرآن الكريم، فإنّ الثابت أنّ التاريخ كان بقدر ما يرفع الحكم يساعد القرآن الكريم على تحقيق ما يسكنه من المبدأ أو القصد إلى التسوية بين بني البشر، وإنّ التسوية بين البشر هي القيمة الكبرى، أو المبدأ التأسيسي الذي يقصد القرآن الكريم تحقيقه، وذلك رغم حضور الحدّ الإجرائي الذي ينطوي عليه التمييز بينهم، ولعلّ أصل هذا الوعي هو الإدراك أنّ هذا الحدّ الإجرائي نفسه يدفع في اتجاه المبدأ التأسيسي، الذي هو المساواة، ولو بتأكيده على أنّ هذا التمييز هو نتاج وضع مشروط وليس نهائياً ومطلقاً أبداً.
دعا مبروك لضرورة التمييز بين التأسيسي للقرآن الكريم المتمثل بقيم العدل والمساواة والحق والخير، والإجرائي النسبي المشروط
وكان علي مبروك يرى أنّ أزمة الخطاب الديني المعاصر تتمثل في التوظيف الأداتي لنصوص القرآن الكريم، فحين يبغي هذا الخطاب تصدير وجه التسامح مع الآخر، يطرح الآية الكريمة: "وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى"، وحين يرغب الخطاب نفسه في الكشف عن وجه التشدّد، يصدر الآية الكريمة: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ.."، ويرى مبروك أنّ الدراسة الحقيقية لتلك الآيات لا تتمّ إلا عبر الكشف عن السياق التاريخي لهذه الآيات، وفق علم أسباب النزول؛ فالآية الأولى نزلت حين ارتحل المسلمون إلى الحبشة نتيجة لبطش المشركين، أما الآية الثانية فنزلت حين والى بعض المسلمين اليهود أثناء غزوة أحد.
اقرأ أيضاً: "الدين والاشتراكية".. هل يمكن تحرير التراث من صراعات الأيدولوجيا؟
ورأى مبروك ضرورة التمييز بين التأسيسي والإجرائي في القرآن الكريم؛ فالتأسيسي في القرآن الكريم هي تلك المبادئ الكلية العامة والمطلقة، والقيم المؤسسة في آيات القرآن الكريم عن العدل والمساواة والحق والخير...، أمّا الإجرائي؛ فهي الآيات التي تتعلق بالحدود والأحكام، وهي نسبية ومقيدة بشروط الواقع والتطبيق؛ حيث أوقف عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، سهم المؤلفة قلوبهم بعد أن قوي الإسلام، وأوقف العمل بحدّ السرقة في عام الرمادة؛ لذا كان علي مبروك يدين الخطاب الديني السائد، الذي تعلّق في دعوته بالإجرائي، وتناسى التأسيسي، مع العلم أنّ التأسيسي، كما يقول، هو الخالد في الإسلام.
اقرأ أيضاً: مفهوم التراث عند مهدي عامل: المعرفة ضد الخصوصية