رغم رحيله المبكر، وهو في قمة عطائه واندفاعه المعرفي والسياسي، فقد مثّل محمد روحي الخالدي علامة راسخة في الوجدان الفلسطيني لريادته الحقيقية في الكتابة التاريخية، واعتماده المناهج الغربية المبتكرة في التحقيق، ودوره السياسي في إعلاء قضية شعبه قبل أن يشهد فصولها المأساوية التي حذّر كثيراً من حدوثها.
الخالدي (1864-1913) ولد في القدس، لأسرة الخالدي المسلمة السنيّة العريقة، والتي اقتسمت مع حفنة قليلة من الأُسَر الأخرى (آل الحسيني، وآل العلمي، وآل النشاشيبي، وآل جار الله، وآل نسيبة، وآل الخطيب...) النفوذ الاجتماعي والسياسي والعلمي في القدس، خصوصاً بعد إلغاء تابعية المدينة لدمشق وصيدا، ووضعها تحت تصرّف الباب العالي مباشرة، حسبما يشير الكاتب صبحي حديدي الذي يقول عن الخالدي بأنه "ليس من اليسير أن يكون المرء، في آن معاً، مناضلاً متحزباً ومتحمساً لقضيته الوطنية، ورجل تحريض وتعبئة يفصل لقب (بيه) بين اسمه وكُنيته، وبرلمانياً منتخباً لا يتحدث إلا عن خطر داهم يتهدد الهوية ثم يهدد بمحو البلد بأسره عن الخريطة، وقنصلاً يمثّل الباب العالي في مدينة بوردو الفرنسية، ومؤرخاً رصيناً يخضع نفسه على الدوام لرقابة منهجية رصينة في كتابة التاريخ".
وليس من اليسير أداء ذلك كله حين يكون المرء فلسطينياً، في ذروة احتقانات النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وفي قلب ما عُرف في التاريخ الدبلوماسي باسم "المسألة الشرقية".
أتقن الخالدي لغته العربية وأجاد التّركية وألمّ باللغة الفرنسية وهذا ما دفعه للانكباب على الاستزادة من المعرفة
أتقن الخالدي لغته العربية وأجاد التّركية وألمّ باللغة الفرنسية، وهذا ما دفعه للانكباب على الاستزادة من المعرفة. لما انتقل إلى بوردو قنصلاً عاماً، اتّسع ميدان نشاطه، ففي الناحية الدبلوماسية، أصبح عميد السلك القنصلي في المدينة ورئيساً لجمعية القناصل. واشترك سنة 1907 في إقامة المعرض البحري العام في المدينة بمناسبة مرور مئة سنة على تسيير البواخر. لكن أهمّ من ذلك ما كتبه وهو في بوردو؛ فقد كان يزوّد مجلة "الهلال" في القاهرة بالمقالات العلمية رغبةً منه في نقل المعرفة والآراء إلى القارئ العربي. ولم يكتف بذلك، بل طرق سبلاً جديدةً وكَتَب في أمورٍ تعالج لأول مرة باللغة العربية، مثل كتابه عن الأدب المقارن.
وكان الدكتور ناصر الدين الأسد قدم، مطلع سبعينيات القرن الماضي، دراسة عن الريادة التي حققها الخالدي في مضمار البحث التاريخي، تحت عنوان "محمد روحي الخالدي: رائد البحث التاريخي الحديث في فلسطين".
وأعيد طباعة كتاب الأسد من قبل دار الفتح للدراسات والنشر بعمّان، حيث يتم في غضونها إلقاء ضوء ساطع على حياة الخالدي وآثاره، وأوجه ريادته العلمية، فـ"الخالدي أول من استقصى أحوال العالم الإسلامي وجمع مادة إحصائية مستوفاة عن أقطاره رتبها وأبرزها في كتاب، وأول من كتب كتاباً باللغة العربية عن المسألة الشرقية. وهو من أوائل الأدباء العرب الذين كتبوا في الأدب المقارن، ومن أوائل الذين كتبوا في النقد الأدبي، ومن أوائل كتّاب العربية الذين عُنُوا بإظهار فضل العرب على الحضارة الغربية وعلى النهضة الأدبية والعلمية الحديثة، وهو أول من ألف كتاباً في العربية عن فضل العرب في ميدان مهم من ميادين العلم وهو الكيمياء".
الخالدي كان مثالاً للعالم الحق المنصرف إلى العلم يعطيه جلّ وقته ولا يضَنّ عليه بشىءٍ من جهده
الخالدي كان، كما يقول الأسد في كتابه هذا، مثالاً للعالم الحق المنصرف إلى العلم: يعطيه جلّ وقته ولا يضَنّ عليه بشىءٍ من جهده. ولذلك كان الخالدي بحق من أعلام فلسطين المعاصرين ورائد البحث التاريخي الحديث فيها".
ويرى الدكتور فيصل درّاج في دراسة بعنوان "المثقف الفلسطيني وقراءة الصهيونية" نشرتها مجلة "الكرمل"، العدد (67)، ربيع 2001 أن الخالدي يعدّ "أحد المثقفين الذين صاغوا بكلماتهم، ذاكرة وطنية فلسطينية، قرأت ولادة المشروع الصهيوني بقلق كبير واقترحت سبل مواجهته. وقد كان روحي، الأنيق في ثقافته وسلوكه، يسجل ملاحظاته في مستوطنات يهودية يعمل فيها (مهاجر) حسن الإدارة والتنظيم، ويكتب كلمات غاضبة عن عربي تداعى يبدد أمواله ماجناً على تخوم الصحراء. وقد تأثر الخالدي بجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وغيرهما من رجالات الفكر التنويري العربي، ودعاة إصلاح المجتمع وتجديد الفكر والانفتاح على الثقافة الكونية. وقدّم (الخالدي) خطاباً عقلانياً محسوباً، تُباطنه دعوة هامسة إلى حداثة اجتماعية ضرورية، بلغة أنيقة وبعيدة عن التعقيد".
وكان أن اتصل (الخالدي) بـ (رضا الصلح) في بيروت و(شكري العسلي) في دمشق، لإنشاء عمل عربي موحّد يواجه "الهجرة اليهودية"، بلغة زاجرة، غاضبة، اتسمت بالمقارنة بين اليقظة اليهودية والغفلة العربية .. تلك المقارنة المفروضة والمرفوضة بين فلسطين المفوّضة إرثها العثماني المجدد استعمارياً ومشروع صهيوني مزود بخبرات وحمايات أوروبية متعددة. وقد قرأ (الخالدي) التناقض بين الصهيونية وعروبة فلسطين، في زمن كانت فيه الأخيرة جزءاً من بلاد الشام.
لقد كانت ثورية الخالدي بارزة لا تخطئها العين، إذ كان يعتقد أن الاستبداد رديف الانقراض، والحرية نظير الإبداع، على ما ينقل عنه سعيد مضيه في كتابه "روّاد التنوير في فلسطين"، فكلما اتسع، كما يقول الخالدي، نطاق الحرية في الدولة "اتسع معه نطاق الأدب في العربية، وكلما ازداد الاستبداد تقيّدت عقول الأدباء بالسلاسل"!