في كتابه "ما بعد داعش، الحرب الأيديولوجية مستمرة" يعالج إدوارد فويارت Edouard VUIART مشكلةً أساسية: ما الذي سيحدث لداعش الذي يبدو أنّ هزيمته على الأرض قد اكتملت في سوريا والعراق (باستثناء الجيوب كما كان الوضع قبل 2013)؟ وقبل كل شيء، ماذا يريد داعش أن يصبح؟ وكيف فكر التنظيم، بغلوّه المذهبي، أن يحضّر مثل هذا المنظور التاريخي؟
داعش يرسم خططاً جديدة ضدّ العالم
يقول قادتهم: بالفعل، إنّ فقدان أراضيهم، وانهيار قوّاتهم المادية ليس سوى حلقة من حلقات الصراع الممتدّ عبر مئات السنين، وأنّ الانتصار الحقيقي ملك للذي يحافظ على إرادة القتال، فهم مقتنعون بأنّ الدعوة إلى الجهاد ستتعزّز من خلال "الاضطهاد"، الكارثة الظاهرة لا يمكن أن تخفي عن القلوب الطاهرة الانتصار النهائي الوشيك ونهاية الزمن.
تنظيم داعش يرسم خططاً جديدة ضدّ أعدائه؛ أيّ ضدّ بقية العالم، إنّهم يُبرّرون، ويُقدّمون تعليمات، هؤلاء الناس يشرحون، ويعلنون، وينادون بلا انقطاع، فلعلّ الوقت قد حان كي نرى ما يقولونه، وهذا ما يسعى الكتاب للكشف عنه.
الكتاب يحذّر من الوقوع في التوحّد الفكري
الميزة الأولى لهذا الكتاب؛ أنّه يحذّرنا من الوقوع في مرض التوحّد الفكري، فهو يبيّن أنّ عمَل الخصم يخضع لمنطقٍ لا علاقة له بمنطقنا نحن، لكنّه بلا شكّ، منطق أكثر وضوحاً وصراحة.
لا تمتلك الرؤية الجهادية تفكيراً عقلانياً وحسب، بل ويتضمن هذا التفكير منظومة دعائية قوية
هناك دوغمائية داعشية، وخطابة، واحتيال شرعي، وجيوسياسة، وعلم الأخروِيات، وعلم آخر الزمان، ورؤية للعالم، وإستراتيجية خلافية (أي متعلقة بالخلافة)، فإن بدوا عبثيّين فلا يعني ذلك أنّهم فقدوا كلّ فعالية، على العكس، وإن كانوا يرعِبوننا فلا يعني أنّهم بلا أيّ معنى.
اشتغل إدوارد فويارت على إعادة بناء هذه العملية الأيديولوجية، بالذهاب إلى المصادر: مبدأ السلطة في رأي الأشخاص الذين يرون أنّ كلّ شيء، إمّا هو مباح أو ممنوع، وإمّا هو مطابق للإرادة الإلهية أو كان بغيضاً، ه مبدأ حاسم، وأدوات تبريره لا غنى عنها؛ فالإيديولوجيا تعني التقاء مجموعة من الأفكار المفصلية، ومن القناعات التي يتبنّاها الأفراد، كما لو كانت تأتي إليهم بشكل تلقائي، ومن الأجهزة تعزّز هذه القناعات عند المجتمعات وتمنحها وجهة محدّدة.
منافسة القاعدة وتحدي الجميع
المؤلف، على سبيل المثال، يطرح بوضوح مسألة التنافس مع القاعدة، أو مع أشكال جديدة من الانتشار الجهادي، ويتناول التخطيط المستقبلي، أي التنبؤ بالإستراتيجية المستقبلية لتنظيم داعش، التي كانت قاعدته ومبرّره اللاهوتي في الوقت نفسه، والخلافة في بلد الشام، انتصار الدولة الإسلامية عام 2014، ومفارقاتها أن تكون أكثر تطرفاً من القاعدة، وأن تتباهى بجرائم أكثر شراسة، واستثناء أيّ تحالف، ومواجهه المزيد من الأعداء، واتخاذ القرار، وبناء خلافة فوق بلدين من خلال تحدي جميع القوى الدولية، كان مفاجأة، وتحقّق.
هل انتهى فعلاً داعش والتهديد الجهادي؟
الدولة الإسلامية تنتمي الآن إلى الماضي، وجود الخلافة لم يكن إلا سريع الزوال، والإعلان عن هزيمة التنظيم العسكرية سيؤدي حتماً إلى كسر وحدة المنظمة، لكنْ هل انتهى فعلاً داعش والتهديد الجهادي؟ إنّ إلحاق الهزيمة يعني دفع العدوّ إلى أن يُقنع نفسه بأنّه خسر المعركة ويعترف بها، لكن كيف يمكن أن تقنع بالهزيمة عدواً تسمح أيديولوجيته بكسب الأرواح كلما تواصلت نكساته وفقد أراضيه؟ "الشهادة نصر، إنكم تقاتلون شعباً لا يمكن هزيمته"، هكذا يقول أبو محمد العدناني، الناطق السابق باسم داعش.
رغم سقوط داعش، تستمر أيديولوجية الجماعة الإرهابية في الانتشار ضمن دعاية ما انفكت تكيّف خطابها رغم النكسات المتواصلة؛ ففي رأي إدوارد فويارت، فإنّ جهاديي الدولة الإسلامية مصرّون، أكثر من أي وقت مضى، على إظهار الطبيعة "النبويّة" لمشروعهم.
حول كتاب "ما بعد داعش، الحرب الأيديولوجية مستمرة" كانت هذه المقابلة مع مؤلفه إدوارد فويارت، وهو محلل فرنسي في الإستراتيجية الدولية.
سقوط الخلافة لا يعني الهزيمة
لقد سقطت قاعدة داعش السورية-العراقية، لكن يبدو أنّ مقاتليها هم أبعد ما يكونون عن الاعتراف بالهزيمة، كيف تشرح هذا الموقف؟
يجب أن نفهم بوضوحٍ أنّ الجهاديّين لا ينظرون إلى سقوط الخلافة على أنّها هزيمة، إنّما كحدثٍ يندرج في قصة جريمة غربية منذ قرن من الزمان، وهي الجريمة التي سوف ينتقمون منها، مهما حدث، في النهاية. كيف يمكننا أنْ نتخيّل جهادياً يعترف بأنّ الله قد خسر المعركة، وأنه يجب عليه التخلي عن القتال؟ في الواقع، لا يجعل خطابهم من كلّ نكسة أداة تجنيد وحسب، إنّما كان هذا الخطاب يتوقع بشكل كبير زوال قاعدتهم الميدانية على الأرض، قبل أكثر من عام من تحرير الرقة، وهكذا كانت دعاية التنظيم تصرّح، مراراً وتكراراً، بأنّ الهزيمة لا تكمن في خسارة مدينة أو إقليم ما، وأنّ قوّة قناعة الجهاديين سوف تنتصر في النهاية على التفوق العسكري المعارض، وأنّ سقوط الخلافة لم يكن سوى الاختبار النهائي الذي فرضه الله على المؤمنين قبل انتصارهم النهائي.
الجهاديون على قناعة بأنّهم سينتصرون
لذا، فإنّ أكبر خطأ هو الاعتقاد بأنّ الهزيمة العسكرية وحدها يمكن أن تحلّ مشكلة الإرهاب في فرنسا، أو في أيّ مكان آخر، إنّ دروس هزيمة سلفه (دولة العراق الإسلامية) تُبيّن لنا أنّ إمكانية عودة داعش، على المسرح السوري العراقي، أو حتى في أفغانستان، إمكانية لا يمكن استبعادها، ناهيك عن "التكاثر" المتجدد للمجموعة التي تتطور بشكل جيد خارج هذه المنطقة؛ فالحقيقة الماثلة هنا: أنّ الجهاديين ما يزالون على قناعة راسخة بأنّهم سينتصرون في نهاية المطاف، وتظل إرادتهم في ضرب "المرتدّين" و"الصليبيين الغربيين" سليمة.
في كتابك، تقوم بتحليل مطوّل للخطاب الدعائي لداعش، فما هي الدروس التي تستخلصها من هذه القراءات؟
أولاً، سواء أكان الأمر تهديداً أو تجنيداً أو تبريراً، فإنّ الجهاديين جزء من عملية الإعلان عن أنفسهم؛ بل إنّهم ثرثارون في ذلك إلى حدّ كبير.
إنّ قراءة نتاجهم يجعلنا ندرك إلى أيّ حدّ يمكن أن يكون فهمنا للعدو مغلوطاً عندما نرفض، بشكل أعمى أو عن جهل، تحليل أدبيّاته المرجعية بدقة، فسرعان ما تصبح التحليلات التي تصفهم بـ "المجانين عقلياً"، أو بـ "البرابرة الجهلة" تحليلات بلا معنى، من المُسلّم به أنّ بعض الجهاديين لم يقرؤوا القرآن أبداً، لكنّ القول بأنّ الجهادي "جاهل يحتاج إلى شفاء" يعني أن ننسى أنّ في نظره، الديمقراطية برمّتها هي الوهم والهلوسة، وأنّ عدم قدرتنا على إدراك ما يصفه هو بأنه "الإرادة الإلهية" هو الجهل عينه.
عصر التنوير جريمة ضدّ "الشريعة الإلهية"
لا تمتلك الرؤية الجهادية تفكيراً عقلانياً وحسب؛ بل ويتضمن هذا التفكير منظومة دعائية قوية، هذا التنظيم يرفض فكر عصر التنوير، ويصفه بأنّه جريمة ضدّ "الشريعة الإلهية"، وهو يتبرّأ من المجتمعات الإسلامية التي سقطت في "الردّة" أو العِلمانية، ويدّعي إعادة تأسيس عصر المدينة المنورة؛ حيث ساد "الدين السماوي"، و"الدين الصحيح"، و"المجتمع الأخوي".
المشكلة ليست في أنّ الجهاديّين فقدوا الإحساس بالأخلاق، أو الفطرة السليمة في سعيهم إلى تحقيق ضالتهم الطوباوية الفاضلة؛ بل المشكلة أنّهم يجدون في هذا الإحساس كلّ المعنَى، بالتالي؛ فإنّ الجهاديّين مقتنِعون على هذا النحو بأنّ كلّ فعل من أفعالهم يهدف إلى إظهار حقيقة أفكارهم، وأن يُقدّموا للآخرين الكشف عن هذه الحقيقة، ولذلك من الضروري أن نفهم هذه الرؤية للعالم، وأن نعترف بأنّ هذه الرؤية إذا كانت ترعبنا فهذا لا يعني أنها لا تعني شيئاً.
الداعشية الحرفيّة تستمدّ أصولها من السلفية
برأيك، كيف يمكننا أن نأمل في تقليل تأثير الأيديولوجية الجهادية؟
لعلّ إحدى الأولويات تتمثل في فهم الخطأ الأساسي في استخدام رؤيتنا الموروثة من عصر التنوير، لتحليل وتوصيف ومواجهة الأيديولوجية الجهادية؛ ففي كثير من الأحيان نجدنا نستخدم مصطلحات تقريبية، أو حتى غير مناسبة تقوم الدعاية لداعش باللعب عليها، دون أيّ ضبط أو تحفّظ.
رؤيتنا الحالية القائمة على القول إنّ المعارضة الحالية داخل الإسلام السنّي تجري بين "تقليديّين مُتخلّفين متمسّكين بممارسات العصور الوسطى" من جهة، وبين "تَحْدِيثيّين تقدّميّين مستنيرين" من جهة أخرى، هي رؤية لا تتطابق مع حقيقة الوضع. الداعشية الحَرْفيّة تستمدّ أصولَها من الوهابية - السلفية (التي وُلدت من التقاطع بين الإصلاح السلفي والحنبلية الوهابية السعودية)، وعلى الرغم من أنّها أبعد ما تكون عن تمثيل الإسلام التقليدي (الذي تناقلته الأجيال)؛ فهي ترفض التقليد باسم ما تصفه بالعلاقة المباشرة مع الأصل.
الوضع السائد هو، في الواقع، أقرب إذاً إلى تعارض بين "تقليد تقدّمي" و"تحديث رجعيّ"، بل وحتى شمولي، وبالطريقة نفسها: عندما يطالب البعض بإلحاح بميلاد إسلام "معتدل" أو حركة إصلاحية، فإنّهم لا يفهمون، من ناحية، أنّ هذا يعزّز لدى الجهاديين ادّعاءهم بتمثيل الإسلام "الحقيقي"، ومن ناحية أخرى، أنّ الإسلام التاريخي قد حدث بالفعل عبر الحركة السلفية، وتبقى مسألة تمويل هذه الأيديولوجية. لكن إذا كان استخدام الحركات الجهادية من قبل الوهابية البراغماتية أمراً ثابتاً ومؤكداً منذ قرنين من الزمان، فإنّه يبدو الآن من اللائق أكثر النظر في اتجاه أبعاد أخرى، لأسباب ترتبط بالفرص الاقتصادية أو الدبلوماسية.
عن journaldeleconomie