ما مكاسب تركيا من الوساطة لحل أزمة الحبوب الدولية؟

ما مكاسب تركيا من الوساطة لحل أزمة الحبوب الدولية؟


18/07/2022

تتسم السياسة الخارجية لتركيا في عهد أردوغان ببراجماتية متهافتة تصل إلى حد الانتهازية، وهو ما يمكن تتبعه في علاقات تركيا الخارجية، حتى لو جمعتها بدول علاقات ذات طابع غير براجماتي بحت، إذ لدى أنقرة القدرة على توظيف كل شيء لخدمة مصالحها.

وعاد الدور التركي للظهور دولياً عقب الغزو الروسي لأوكرانيا؛ كوّنها تقع في جغرافيا الصراع، وتتحكم في المضايق التي تربط البحر الأسود الذي تقع عليه شواطئ أوكرانيا وجزء من شواطئ روسيا بالبحر المتوسط، حيث المياه الدولية المفتوحة، فضلاً عن علاقتها الوطيدة بأوكرانيا وروسيا، وعضويتها في حلف شمال الأطلسي الذي يحارب روسيا بالوكالة على أراضي أوكرانيا.

وفي خطوة أقرب إلى الصيد، اقتنصت تركيا صيداً ثميناً وهو أزمة الحبوب العالمية نتيجة تعطل صادرات الحبوب الأوكرانية بسبب الحصار البحري الروسي، عبر تقديم وساطة بين الدولتين برعاية الأمم المتحدة لبحث فتح ممر للحبوب الأوكرانية لتخفيف حدة الأزمة الغذائية العالمية، مقابل الحصول على مكاسب اقتصادية وسياسية.

اجتماعات إسطنبول

واستضافت إسطنبول اجتماعاً رباعياً ضم مسؤولين من روسيا وأوكرانيا وتركيا والأمم المتحدة التي تتوسط لنقل الحبوب والمنتجات الزراعية الأوكرانية إلى الأسواق العالمية للتخفيف من حدة الأزمة الغذائية، في 13 من شهر تموز (يوليو) الجاري.

تتوسط تركيا سياسياً واقتصادياً بين روسيا وأوكرانيا

وقبيل الحرب كانت أوكرانيا تصدّر ستة ملايين طن من الحبوب والبذور الزيتية شهرياً، ومن أصل 55 دولةً تشهد أزمة غذائية، تعتمد 36 دولةً على صادرات الحبوب من أوكرانيا والاتحاد الروسي بنسبة فاقت 10% بحسب إحصاءات منظمة الأغذية والزراعة العالمية. وتسببت الحرب في ارتفاع أسعار الحبوب والزيوت بنسبة زادت عن 50% قبيل اندلاع الحرب، ما أثر بشدة على الأمن الغذائي لمئات الملايين من البشر حول العالم، وزاد من الأعباء المالية على الحكومات والشعوب، خصوصاً في الدول النامية والفقيرة.

وبحسب تصريحات وزير الدفاع التركي، خلوصي آكار، تم الاتفاق على إنشاء مركز تنسيق في ولاية إسطنبول يضم ممثلي الأطراف المعنية، والتوصل لتفاهم بشأن إجراء عمليات تفتيش مشتركة في نقاط الخروج والوصول بالموانئ وضمان سلامة الملاحة. وتضع روسيا شروطاً للسماح بدخول وخروج السفن التجارية من الموانئ الأوكرانية، ومنها؛ ضمان عدم نقل الأسلحة إلى أوكرانيا، والتزام الأخيرة بإزالة الألغام البحرية التي ألقتها في البحر الأسود، وتريد أوكرانيا ضمان عدم استغلال روسيا ممرات الحبوب لمهاجمة سواحلها الجنوبية، فضلاً عن مطلبها السابق الرافض لأي تدخل روسي في العملية قبيل التراجع عنه.

في حال قدرت تركيا على تحقيق التقارب بين الجانبين يمكن أن يؤدي ذلك إلى تعزيز حضورها المؤثر في مناطق إقليمية مختلفة بجانب تجاوز أزماتها الداخلية

ومن المرتقب عقد اجتماع آخر هذا الأسبوع للتوقيع على اتفاق رسمي بخصوص نقل الحبوب والزيوت من أوكرانيا عبر البحر، بعد ثبوت عدم وجود بدائل مكافئة للنقل البحري، بسبب ضخامة الكميات التي تنقل عبر السفن، بواقع 100 سفينة شهرياً لنقل الحبوب والزيوت فقط.

مكاسب اقتصادية

وبحسب خطة إنشاء ممرات آمنة لنقل الحبوب من الموانئ الأوكرانية إلى العالم، ستقوم تركيا بإنشاء الممرات بالتنسيق مع أوكرانيا لتحديد أماكن الألغام البحرية قدر الممكن، مع قيادة سفن بحث وإنقاذ تركية لقوافل الحبوب عبر هذه المرات، حتى وصولها إلى المناطق الآمنة، وكذلك ستكرر تركيا نفس الخطوات في رحلة العودة. ومن المرجح أن يتضمن مركز التنسيق في إسطنبول آلية بمشاركة روسيا لتفتيش السفن العائدة إلى أوكرانيا لضمان عدم إدخال الأسلحة إليها.

عبد القادر سليماني: يرى أردوغان في كل المشاكل الدولية مكاسب يمكن تحقيقها

ولن تقدم تركيا هذه الإجراءات لدوافع إنسانية، بل ستحصل على فوائد اقتصادية كبيرة، ومنها ما هو معلن وآخر يمكن استنتاجه، ومن المعلن إعلان أنقرة عن جاهزية شركات النقل البحري التركية للقيام بدور فاعل في نقل الحبوب الأوكرانية، وصرحت مصادر تركية بوجود 20 سفينة تركية جاهزةً لهذا الغرض، فضلاً عن حصولها على الحبوب والزيوت والمواد الخام الأوكرانية لتلبية احتياجاتها الغذائية والصناعية، حيث تستورد ما يقرب من 9 ملايين طن قمح سنوياً، كانت في السابق تغطي 15% من أوكرانيا و65% من روسيا، ولهذا قد تزيد حصتها من القمح الأوكراني بأسعار أرخص بكثير من قمح روسيا، وربما تعظم أرباحها عبر زيادة الواردات من أوكرانيا للتصنيع ثم التصدير.

ويقول خبير الاقتصاد السياسي والعلاقات الدولية، عبد القادر سليماني: "يرى أردوغان في كل المشاكل الدولية مكاسب يمكن تحقيقها، كما حدث في تدخلاته في سوريا وليبيا، إلى حد أنّ مواقفه السياسية هي في الأساس اقتصادية".

وتابع الخبير الجزائري لـ"حفريات": "فيما يتعلق بممرات نقل الحبوب، تريد أنقرة مشاركة شركات النقل البحري التركية الواعدة في عمليات نقل الحبوب، وستحصل على أولوية عن الشركات غير التركية، ويرتبط بذلك تعزيز مكانة تركيا التجارية مع العديد من دول العالم سواء تجارياً وسياسياً وحتى لتعزيز صورتها الذهنية كلاعب مهم في الشؤون الدولية".

وكانت أوكرانيا اتهمت عدة دول من بينها تركيا بشراء قمح أوكراني استولت عليه روسيا من صوامع ميناء ماريوبول الخاضع لسيطرة الأخيرة، حين سمحت موسكو بخروج سفن محملة من الحبوب من بينها سفينة تركية. وارتباطاً بالمصالح الاقتصادية المباشرة ستحتاج ممرات الحبوب إلى خدمات لوجستية بحرية، مثل أعمال الصيانة والتموين، وهي خدمات ستقوم تركيا بتقديمها حصراً، هذا فضلاً عن مكاسب اقتصادية حصلت عليها بعد سماح موسكو بتمديد نقل المساعدات الدولية إلى سوريا عبر الأراضي التركية بعد رفض سابق.

مكاسب سياسية

وإلى جانب المكاسب الاقتصادية، تحصل تركيا على مكاسب سياسية واسعة من توسطها في حل أزمة الحبوب الدولية، مستفيدةً من مميزاتها الجغرافية والسياسية والاقتصادية في ذلك.

ويقول الباحث السياسي، مصطفى صلاح: "تستفيد تركيا بصورةٍ كبيرةٍ من تداعيات الأزمة ما بين روسيا وأوكرانيا فيما يتعلق بتعزيز سياساتها الخارجية؛ سواء بدعم مكانتها في الإستراتيجية الغربية وفيما يتعلق بإدارة علاقتها مع روسيا على الجانب الآخر".

مصطفى صلاح: تستفيد تركيا بصورةٍ كبيرةٍ من تداعيات الحرب في أوكرانيا

وأوضح الباحث المصري لـ"حفريات" بأنّ أنقرة تعتمد على "التناقضات بين الشرق والغرب في إدارة ملفاتها الخارجية، ويتضح ذلك من خلال تفسير التباينات في السياسة الخارجية التركية تجاه التعامل مع الأزمة الأوكرانية، سواء بممارسة بعض الضغوط على الدول الأوروبية والولايات المتحدة في بعض الملفات، أو باستغلال انشغال هذه الدول وتعزيز مواقفها مع روسيا خاصة في الملفات ذات الاهتمام المشترك، كما هو الحال بالنسبة للأوضاع في سوريا".

وتابع: "في السياق نفسه، تعمل تركيا على تعزيز أهميتها الإستراتيجية في الحفاظ على ثقة جميع الأطراف ضمن أهدافها الخاصة بدعم توجهاتها كحلقة وصل بين الجانبين، بعد أن وصل مستوى العقوبات المتبادلة إلى مرحلة متصاعدة تمتد تداعياتها على شعوب المنطقة والعالم، بما يعني ضرورة وجود أطراف ثالثة قادرة على لعب دور مؤثر في هذا المجال، وهو ما تحاول تركيا تطبيقه بدايةً من عرضها للوساطة ومن خلال الضغط لاستمرار تدفق النفط والحبوب من روسيا وأوكرانيا إلى دول العالم".

الاقتصادي عبد القادر سليماني لـ"حفريات": تركيا هي الدولة الوحيدة في الإقليم التي تلعب على الحبلين، ولديها سياسة الحرباء التي تسعى لكسب مصالح سياسية واقتصادية من جميع الأطراف

وبحسب الباحث مصطفى صلاح، فإنه في حال قدرت تركيا على تحقيق التقارب بين الجانبين يمكن أن يؤدي ذلك إلى "تعزيز حضورها المؤثر في مناطق إقليمية مختلفة بجانب تجاوز أزماتها الداخلية بما يؤدي إلى صعود في سياساتها تجاه ملفات كانت في الماضي تمثل عراقيل في تعزيز حضورها وأهميتها".

ويصف الخبير في العلاقات الدولية، عبد القادر سليماني، سياسة تركيا بأنّها مثل "الحرباء": "تركيا هي الدولة الوحيدة في الإقليم التي تلعب على الحبلين، ولديها سياسة الحرباء التي تسعى لكسب مصالح سياسية واقتصادية من جميع الأطراف، خصوصاً مع التدهور الاقتصادي والتضخم وانهيار الليرة، ولهذا تمارس الابتزاز لنيل مكاسب اقتصادية من جميع الأطراف، دون التزام بمبادئها التي تجمعها بهذه الدول".

ويذكر أنّه مع بداية الاجتياح الروسي لأوكرانيا، كان هناك نحو 20 مليون طن متري من الحبوب والبذور العالقة في الأراضي الأوكرانية التي اجتاحتها روسيا، أو المعزولة عن الطرق العادية المؤدية إلى البحر الأسود، وهي من موسم حصاد العام الماضي فقط. وتوفر روسيا وأوكرانيا وحدهما ما يقرب من ثُلث ما يحتاجه العالم من القمح، وربع احتياجاته من الشعير، وثلاثة أرباع احتياجاته من زيت عبّاد الشمس، وفقاً للمعهد الدولي لأبحاث السياسات الغذائية.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية