يمكن لكل من حضر اليوم الأول من "مؤتمر الأزهر العالمي لنُصرة القدس" أن يلمس شيئاً مهماً وجوهرياً يتجاوز مضمون الكلمات التي قيلت، على أهمية ما ورد فيها، وهو الإيمان التام واليقين الذي لا يخالطه أوهى شك في أن المدينة المقدسة إنما هي لأصحابها الفلسطينيين، طال الزمن أو قصر، واعتدلت موازين القوة أو اختلت، وناصر العالم القضية العادلة أو لم يناصر، وانضم إلى المحتلين الإسرائيليين من شاء من القوى الكبرى أو العظمى.
ربما يكون من الأشياء المختلفة في المؤتمر أيضاً، روح التوافق التي سادته، وتلك الحال النادرة عربياً من قبول الاختلاف، وتفهم وجهات النظر الأخرى في قضية حساسة مثل قضية القدس، غالباً ما تشهد أشكالاً من التشنُّج والتخوين والتراشق بالتهم. وأعتقد أن مردّ هذا الانفراد هو جهود دول عربية تدرك معنى المسؤولية، إلى جانب انعقاد المؤتمر بإشراف مؤسسة إسلامية عريقة ذات تاريخ طويل في الاعتدال والفهم المستنير للإسلام، وشخصية فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، الذي لم تكن رئاسته لـ"مجلس حكماء المسلمين"، إلا تعبيراً عن الحكمة التي يستشعرها كل من اقترب من العالم الجليل، ومن يؤتَ الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً.
كان التسامح والاستعداد للفهم وقبول الرأي الآخر يظلل النقاشات والحوارات التي شهدناها. وكان ممكنا أن تُطرح أسئلة تؤكد ضرورة مراجعة الذات عربياً وإسلامياً، وتقييم المواقف بعيداً عن قوالب التفكير الجاهزة أو التحسب للتهم المُعلبة.. أسئلة من قبيل: هل يمثل قرار حظر زيارة القدس في الوقت الحالي دعماً للمقدسيين وللقضية الفلسطينية، أم إنه عائق دون مساندتهم ومساعدتهم على مواجهة البطش الإسرائيلي والخطط التي لا تتوقف لتهويد القدس وفرض أمر واقع عليها تحت نير العسف والإكراه؟ هل يمكن لقرار اتُّخذ قبل عقود، وفي ظل عالم مختلف كلياً وظروف فلسطينية وعربية وإسلامية مغايرة جذرياً لما نحن عليه الآن، أن يكون أكبر من المراجعة والتعديل والنظر الشجاع والحر في قابليته للاستمرار؟ هل تُعد زيارة القدس، وهي في وضع الأسير المظلوم، اعترافاً بالسجان أم تثبيتاً لأهل البلد الأسير وتقوية لعزائمهم؟ ألن تتيح لنا الزيارات، ربما، وسائل لفهم طبيعة معركتنا واجتراح وسائل وأساليب وآليات جديدة أكثر فاعلية وتأثيراً في خوض معركتنا من أجل القدس ومن أجل فلسطين، تتجاوز فكرة الزيارة في حد ذاتها؟
أسئلة مثل هذه كانت تجد في أروقة المؤتمر أجوبة مختلفة، ووجهات نظر قد لا تتفق إطلاقا مع بعضها البعض، لكن أحداً لم يبادر الآخر باتهام أو بإساءة. وهذه من ميزات غياب المزايدين الذين يُعدون داءً أصيلاً في كل عمل عربي مشترك تجاه القضية الفلسطينية، وفي القلب منها قضية القدس الشريف. فالمزايدون يخوضون معارك الكلام ويدّعون أنهم الأكثر وطنية من خلال إطلاق الحناجر إلى أقصى طاقات صراخها، ويوزعون الاتهامات والسبَاب؛ ليحيلوا كل محاولة للعمل المشترك والمُنسق إلى احتراب داخلي، بما يحول دون توافر الشرط الأساسي لنجاح أي عمل مشترك، وهو اجتماع الكلمة وتوحُّد الجهود.
لم يشذَّ موقف عربي واحد عن رفض قرار ترامب الأخير، ولم يسمع الأمريكيون إلا صوتا عربياً وعالمياً موحداً حول انتهاء حيادهم وتهاوي فرص احتفاظ واشنطن بدورها وسيطاً في عملية السلام. والأهم هو تحويل هذا الموقف الصلب إلى عمل فعلي وقرارات وخطوات على الأرض، تمتلك من الرشادة والعقلانية وفهم الواقع ما يكفي لإحراز تقدم حقيقي. أما معارك الكلام فهي الأسهل، لكنها لا تتمخض إلا عن الخذلان. ومعارك الكلام كان مصدرها دائماً، ولا يزال، أن هناك من لا يرى في قضية القدس وفلسطين إلا ورقة مساومة سياسية يستخدمها لتحقيق غرض آخر بعيد تماماً. ولنا في عنتريات إيران وتركيا الفارغة النموذج الأوضح على ذلك، وبالطبع فإن قطر تلعب دوراً محورياً في هذا التخريب، لكنها تكتفي بدور التابع الصغير الذي اختارته منذ فارقت الصف العربي.
في المؤتمر وجدت أن هناك فرصة حقيقية لمراجعات حقيقية، ولا شك في أن تحرير العالم العربي وتحرير الإسلام من الصورة الكريهة التي رسخها المتطرفون والإرهابيون جزء من معركتنا من أجل القدس وفلسطين، كما أن توحيد الكلمة فلسطينياً، بإنهاء الانقسام الداخلي، وعربياً بجمع الدول العربية حول كلمة سواء، جزء آخر مهم من معركتنا. ولا يقل عن ذلك أهمية تقوية كيان الدولة العربية، ومنع محاولات إضعافها وهدمها وتفجيرها من الداخل بالفوضى والاضطرابات والشقاقات والمليشيات المرتهنة لدول وقوى وخارجية على النحو الذي شاهدنا آثاره المدمرة عربياً. وإيران ومليشياتها الطائفية في العراق ولبنان واليمن، وتركيا والإخوان المسلمون والجماعات الخارجة من عباءتها، وقطر التي ارتضت أن تكون خنجراً في الخاصرة العربية، كل أولئك يسعون إلى هدم الدول العربية وإنهاكها وتدمير مناعتها الذاتية وتعظيم قابليتها للاختراق. وهذه تحديداً هي الظروف التي تجعل قضية فلسطين تفقد داعميها الحقيقيين.
برغم أنه لا مجال للمقارنة، يمكننا النظر إلى مؤتمر الأزهر لنصرة القدس، ومؤتمر آخر للبرلمانات الإسلامية استضافته طهران في الوقت نفسه تقريباً، ففي حين كان مؤتمر "نصرة القدس" داعياً إلى وحدة الكلمة والصف، وداعماً للتوافق والتآزر العربي والإسلامي والإنساني، حفل مؤتمر طهران بالتحريض وزرع الكراهية وتخوين الدول العربية والإسلامية. ولا أظن الفارق يخفى على أحد، فكيف لمن يكون كل همه شق الصف وإشعال الحرب بين الأشقاء عرباً ومسلمين، أن يزعم أنه يريد للقدس أو لفلسطين خيراً؟
مؤتمر "نصرة القدس" يمنحنا أملاً حقيقياً في أن لدى العرب والمسلمين قدرة على حشد جهودهم، وتوظيف أدوات القوة والتأثير التي يمتلكونها بالشكل الصحيح؛ من أجل إنقاذ القدس من غاصبيها، وإجبار العالم على احترام عدالة قضيتهم والتحرك من أجلها، لكن ذلك يستلزم الانتباه إلى المتاجرين بفلسطين والقدس، والساعين إلى اختطاف القضية من أجل تحقيق أهداف مشبوهة تعمق جراح فلسطين ومأساتها التي طالت.
راشد العريمي - عن "العين الإخباري"